هل تملك الديكتاتورية منطقاً؟

هل تملك الديكتاتورية منطقاً؟

17 ديسمبر 2018
+ الخط -
اعتقد الكثير من المحللين أن زمن الإيديولوجيات ولى من غير رجعة، آخذا في طريقه وصفة الديكتاتورية باعتبارها نموذجا لسلوك مُتأصل في النفس البشرية ومنهجا قديما في تحديد طبيعة العلاقة بين الحكام والمحكومين. مُعتبرين أن الفكر والممارسة السياسيين في تقدم وازدهار أخلاقي واضح. ما دمنا لم نعد نسمع عن شخصيات وأنظمة مثل موسوليني وموغابي وتيتو أو بول بوت..

يمكن لهذا الموقف أن يكون صادقا في حديثة عن اندثار الديكتاتورية من حيث شكلها السطحي الظاهري، المقترن بالتعذيب والقمع وسطوة الرأي الواحد غير القابل للنقاش.

لكن الممارسة الديكتاتورية في جوهرها ما زالت حاضرة بقوة، بل إن راهنية كثير من التعقيدات السياسية، مع ضبابية ولا أخلاقية أغلب أجزاء العمل الإعلامي زادته تجذرا وقبحا. حتى وإن كان يستعمل طرقا ومنهجيات ناعمة، مستترة عصية على التفكيك لغير المتأملين في حقيقة الأحداث، أو في ظل عدم القدرة على الربط بينها.. إذ ما هو سلس ورطب وساكن يكون أشد فتكا.

هذا ما يجعل شكل الديكتاتوريات المعاصرة التي تعيش بين ظهرانينا أخطر من صيغ سابقة كتلك التي حللتها حنا أرندت في كتابها: "أصول التوتاليتارية" المتضمن لآليات الأنظمة السياسية في القرن العشرين مثل استهداف الدهماء والعامة والسيطرة المطلقة على حياة الأفراد كليا حتى في لحظاتهم الأكثر حميمية.


الأدهى أن الديكتاتوريات الجديدة وبالضبط تلك القائمة في الشرق الأوسط ونسخها الأفريقية تعمل وفق مخطط مدروس ومنظم له أسبابه وغاياته التي لا يحيد عنها، والتي سنحاول استنباطها وتحليلها. عكس كل توقع يفترض أن تصفيات المعارضين ومحاكماتهم السياسية الشكلية مسألة عشوائية أو عبارة عن تكتيك سياسي تسييري لحظي يناور للخروج من أزمة أو ترسيخ سلطته في المجتمع.

إن أبرز معالم المنهج، بالأحرى العقيدة الديكتاتورية الجديدة في المجتمعات العربية الإسلامية يمكن نعتها بـ"المحاكاة الباهتة للتأله" بحيث يسعى حاكم إلى اقتباس صفات لا تتوافق مع الكائن البشري في حياته اليومية في ما يخص المأكل والمشرب والأماكن المرتادة، حفاظا على نوع من الهيبة التي تأخذ شكل فقاعة: ها هنا يعتبر الشخص الديكتاتور أن قربه من الناس العاديين ومشاركتهم أنشطتهم قد يهدد قيمته وهيبته، في اقتباس مشوه بأن الإله فقط من لا ينزل عند البشر ولا يظهر بشكل مستمر. وحين يظهر تكون المعجزة قد وقعت حاملة تباشير الإصلاح والفلاح التي يترقبها الأفراد بشوق عظيم ملغز.

لذلك نرى غالبية الطغاة اليوم يسافرون لأماكن نائية عن بلدهم الأصلي، مرتادين مطاعم ومقاهيَ لا يصل إليها صدى شعوبهم حفاظا على تميز مغتصب. في هذا نجد مئات الصور و"السيلفيات"، كذا الفضائح، تقدم دليلا دامغا على هذا التأله المزيف. وطبعا، المرتبط باقتناص قاعدة أخرى هي: "كُن فيكنْ" بحيث لا وجود لمستحيل في الطلبات والرغبات والمشاريع التي يأمر بها أو فقط ينويها أصحاب الفخامة، أولي الأمر، العرب المسلمون.

هذه القاعدة يزكيها حدث تاريخي قرأت عنه يوما حين عارض مستشار حاكما عربيا فغضب عليه الأخير، ثم طلب منه رسالة غفران وتوبة كي يسامحه، فرفض الأول باعتبار أن الغفران لا يكون إلا لله، مكتفيا باقتراح كتابة رسالة اعتذار. بالتأكيد سيرفضها الحاكم تماشيا مع قناعته بالمحاكاة الباهتة للتأله.

يرتبط هذا المبدأ في التفكير الديكتاتوري المعاصر بآخر لا يقل أهمية وخطورة باستطاعتنا وصف الطاغية خلاله بأنه "تكنوقراطي في الوجود": معنى هذا الكلام أنه غير مهووس أو مهتم البتة بأسئلة الإنسان الكبرى، وبالتالي المُرهقة مثل التفكير والتخطيط في قوت وكرامة وشظف عيش المواطنين الفقراء وأهل القرى والجبال -اللهم كفلكلور موسمي لإطعام عدسات الكاميرات- وهي وضعيات تستدعي بإلحاح تدخل أهل الحل والعقد وإلا لما اقتضت سنن الاجتماع والتاريخ والفكر السياسي عبر مفاهيم الديمقراطية والانتخابات والمؤسسات أن يصلح الحاكم كي تصلح أمور المواطنين كما يبين هوبس بالتفصيل في كتابه: "اللوفيتان". فلا حديث عن تجارة أو سياحة أو رياضة إذا لم يتوفر حاكم عادل قوي أشبه بالتنين.

إن الحاكم الديكتاتوري في صميمه ابن لحظته الحسية نتيجة تيقنه من انعدام مخاطر إزاحته، لسبب من الأسباب على رأسها غياب أو تغييب آلية الديمقراطية في بلده. وعليه، يكون مُجمل تفكيره مُنصبا على جزر المالديف ومحلات باريس ومدن إسبانيا السياحية.. يفكر فقط في نوع بل أنواع السيارات الفارهة وأفخم الأماكن والمقاهي برفقة نخبة البشر. أولئك الذين حبتهم تفاصيل عائلية وعشوائية بسيطة لا علاقة لها بالإنسانية والكفاءة ما يكفيهم ليكونوا في المكان غير الصحيح، بالشخصية غير الحقيقية.

آخر القواعد المتحكمة في العمل والوظيفة الديكتاتورية تخص عدم التناسب بين الفعل وردة الفعل، الذي يوجه تعاملهم مع المختلفين والمعارضين لهم أو أشباههم. فكيف يعقل أن فكرة أو سلوكا بسيطا قام به شخص غير مقتنع بالطغيان بدافع من واقع مُر، يراه أمامه ويعايش لفحاته يوميا بقسوة تتضمن الجهل والفقر والبطالة.. كيف لمثل هذا الدافع الضروري أن يقابله الطاغية بحرمان ذلك الشخص من حياته أو كرامته أو حريته بتفريق سنوات سجن من العشر إلى العشرين، لم يكن أحد ولا الحاكم نفسه سببا في وهبه إياها.

هذا التشوه واللامنطق السيكو- سوسيو- سياسي، الذي يعبر بمفارقة عن نظرة سياسية جديدة ابتكرها الطغاة المعاصرون بفضل عطالتهم عن فعل أي شيء مهم في الحياة، يجرهم بالضرورة لقلب ومخالفة كل قواعد التعامل المتعارف عليها كونيا، حتى وإن تعلق الأمر بارتكاب جريمة شنعاء.

لأول مرة، نسمع ونشهد رأي العين حكايات الاغتيال والتصفية؛ عملية يتم القتل فيها بعلانية، عبر استخدام آلات ووسائل اختُرعتْ لقطع الخشب أصلا، ووفق "مخطط" تفوّق به القاتل على ما سبقه من ديكتاتوريات في أساليب قتل المعارضين. لتكون بذلك طرفة القرن السياسية التي سيحكي عليها جاحظ عربي آخر، سيأتي في المستقبل.. فعلا إن الديكتاتورية لا عقل لها إلا منطق العبث...