ذكريات مهزوم في كأس العالم

ذكريات مهزوم في كأس العالم

26 نوفمبر 2022
+ الخط -

عشية الجمعة من عيد الفطر في عام 2018، وفيما كانت الشمس تستعدّ للارتماء في عُشّها البعيد، كنتُ قد خَتمت رواية "المغاربة" لصاحبها عبد الكريم الجويطي، التي فازت بجائزة المغرب للكتاب، ووصلت إلى القائمة القصيرة من جائزة البوكر العربية. وقد كان خِتامها انتصاراً أدبياً لي كقارئ، لكن أيضاً هزيمة نفسية، لأنّ حبكة حكيها في وصف شخوصها، تعطيك هواجسَ، بل وإحساسات فعلية بأنها كُتبت لك أنت بالذات، ما دُمت في الأخير واحداً من أولئك المغاربة القابعين في عنوانها، المُدرجين في لائحة معذَّبِيها، سواء شخصية الأخوين الأعمى أو مبتور الذراع العائد من حربٍ ضدّ الرمال في الصحراء.  

هذا الأرق في الخاطر المُرفق بدوامة نفسية أكبر مني، التي لم ينفع معها إلا التعرّق مع "قصعة الكُسْكُس" ذي السبع خُضار، الذي أعدّته لنا خالة قادمة من مراكش، المسمّاة أرض السبعة رجال (أجهل هوس المغاربة برقم سبعة). بعدها اخترتُ تحت وقع ووطأة وطنية ما زالت تغلي في نفسي مشاهدة المنتخب الوطني لكرة القدم، في أولى مباريات كأس العالم في روسيا ضد منتخب إيران المحكومة بنظام ولاية الفقيه الشيعي، بقيادة حكم تركي، يمتد بأصله إلى باشا من العهد العثماني. انظروا كيف أنّ هواجس التاريخ تجد دوماً ثغوراً، تتسلّل منها إلى خاطرك للتنغيص على لحظة صفاء خاطرك المؤقتة.

في تلك البطولة، كنّا نمتلك منتخباً في مستوى التطلعات بقيادة الثعلب الفرنسي، هيرفي رونار، ما جعل سقف الطموحات يرتفع عالياً حتى لدى أكبر الساخطين المقاطعين للمنتخب. وكيف لا يكون هذا؟ ونحن المنزوع منهم أبجديات الوطنية الكاملة في تلك التسعين دقيقة، بدءاً من عزف النشيد الذي نسعى لحظتها بالضبط لحفظه، وانتهاءً بصافرة حكم تعيدنا إلى الدرك الأسفل من الواقع المرير.

لأني أعمى بحبّ هذه الأرض أرفض الهزيمة فوق ترابها 

ذلك ما حدث فعلاً. ففي ختام المباراة، وبعد شدّ وجذب، تفتّتت فيه أعصابنا، أبى لاعب مغربي اسمه عزيز بوحدوز دخل احتياطياً في الدقيقة السبعين، إلا الوفاء لعقلية المغربي المخرومة علاقُتها مع الزمن، ليُسجل هدفاً في مرمانا في الدقيقة السابعة والثمانين، سجل هدفاً غالياً لإيران في مسار التاريخ، قاطعاً بمُدية غير حادة من صنعنا المحلي كلّ خطوة ضئيلة في اتجاه مقارعة الأمم الكبيرة؛ ولو في حدث مثل كأس العالم. وبالتالي كرّس صاحبنا على هذا النحو وضعاً حياتياً مغربياً غابراً في غربته وغرابته عن مسار الإنسانية، كأننا لا نستحق الفرح أكثر من ثلاث مباريات لتسعين دقيقة. فيتم قذفنا إلى بعد مُغرض في الحسرة، ضارب الجذور في إنتاج ظروف التقهقر والتخلف الخلاق، تنعدم معه نهائياً أيّ إمكانية أو محاولة عيش أو حتى العبور إلى الدور الثاني من كأس العالم منذ مونديال 1986 في المكسيك، الذي يقف شاهداً شامخاً "شايف كلّ حاجة" أنّ ماضينا أفضل من حاضرنا وهي الفكرة/ الجرح نفسه الذي راوغ الجويطي كثيراً بقلمه ليقوله لي طوال أطوار الرواية، غامزاً إليّ به. ولكن لأني أعمى بحبّ هذه الأرض، أعترض عليه وأرفض الهزيمة فوق ترابها كما فعل الأجداد الذين يرقدون تحتها الآن.