بمقتضى وظيفته

بمقتضى وظيفته

08 نوفمبر 2018
+ الخط -
كانت العملية المرتقبة سهلة، لكنها كانت محرجة بسبب مكانها. ولذلك كنت حين أخبر صديقاً أو قريباً بأنني سأجري عملية لإزالة خُرّاج، تحول إلى مشكلة بسبب مضاعفات مرض السكر، أخبره أن مكان الخُرّاج في أعلى الفخذ، لأنه ليس من الضروري يعني أن يعرف أن مكانه الحقيقي أسفل الخصية، وخاصة أن مجرد نطق كلمة الخصية يثير لدى أبناء جلدتنا - أو أبناء خصيتنا بمعنى أصح - رغبة غير مفهومة في الضحك الهستيري، حتى وإن ارتبط ذكرها بالمرض.

كان طبيبي قد اختار "مستشفى خاصّاً" لإجراء العملية، بناءً على خوفي من الإهمال الذي قد يؤدي لعدوى غير مرغوب فيها. ومع أنه كان حريصاً وهو يحيلني للمستشفى أن يرد على كافة أسئلتي ويخبرني بمعلومات تفصيلية، لأنه لاحظ ذعري الشديد ما إن سمعت كلمة الجراحة، إلا أنه لم يخبرني بموضوع الحلاقة هذا. ولذلك احتجت إلى الاتصال به بعدما دخل ذلك الرجل الدمث المبتسم غرفتي دون ميعاد مسبق، قائلاً لي إنه حلاق المستشفى، ثم طلب مني أن أنزع ملاءة السرير لكي يقوم بتجهيزي للعملية. ولأنه بدا واثقاً للغاية من نفسه، كان من الحكمة أن أؤجل طرده إلى ما بعد الاتصال بالطبيب.

قال لي طبيبي مطمئناً، إن العملية - صحيح - ستُجرى تحت تأثير مخدر يشل إحساسي بالنصف الأسفل من جسدي، ومع ذلك فإن إزالة الشعر في المنطقة المحيطة بالعملية، إجراء متبع وروتيني ولا داعي للقلق منه. وأنا في الحقيقة لم أكن قلقاً، بل كنت محرجاً أو إذا شئت الدقة "مبضوناً" بالمعنى الحرفي، ولذلك كنت أريد أن أنتهي من كل هذا القرف في أسرع وقت ممكن. كان لدى الحلاق الذي شارف على الستين، من الخبرة الكافية ما يجعله يدرك ما أنا فيه من حرج وضيق، ليقول لي ملاطفاً ومهوناً مما أنا فيه، إن علي أن أتعامل مع الموضوع بوصفي عريساً يستعد لتجهيز نفسه قبل الدخلة، قبل أن يدرك أن تعليقه ربما كان غير مناسب تماماً لوصف الوضع الراهن، فيقرر ببراعة تغيير الموضوع وتسليتي بالحكي عن نفسه وعن مهنته التي لم أكن قد تصورت وجود مثلها.


كنت قد أغمضت عيني للحظات، فور أن خلعت ملابسي واستسلمت لمصيري، ثم رأيت أنه ليس من الحكمة أن أسلم نصفي الأسفل لأحد وأنا مغمض العينين، حتى لو كان حلاق مستشفى في الستين من عمره، لذلك "فنجلتُ" عينيّ وأنا أراقبه يقوم بتنظيف المنطقة المحيطة بالخُرّاج بحذر وعناية، وهو يحكي لي بأداء ممثل إذاعي قدير، عن الدنيا عجيبة التصاريف التي ربطت رزقه بالمستشفيات، مع أنه لم يكن يكره شيئاً في الحياة مثل دخول المستشفيات، وأنه ظل لفترة بعد بدء عمله يكره مشوار المستشفى اليومي، الذي أجبره على قبوله انهيار العمارة التي كان يوجد بها صالونه عقب زلزال 92، وهو الانهيار الذي قضى على محل توارثته العائلة أباً عن جد. لكن مشاعره تبدلت بعد ذلك، حينما اكتشف أنه لم يعد مضطراً للبقاء في المحل أغلب ساعات اليوم طلباً للرزق، بل صارت له "نوبتشيات" يعمل فيها، ثم يعود ليقضي مع زوجته وأولاده أوقاتاً جميلة لم يكن قد جربها من قبل، ليكتشف بعد عدة أشهر أن عمله المنتظم في المستشفى رحمه هو وأسرته من مشاوير الدكاترة والعيادات، بكل ما يرتبط بهم من مصاريف وتضييع للوقت وتضارب في الآراء، فضلاً عن زيادة خبرته الطبية مع كثرة ما رآه من "حالات وبلاوي ربنا يعافينا"، لدرجة أنه أصبح يتمنى أن يفتحوا كلية طب في التعليم المفتوح ليلتحق بها، ويصبح "حلاق صحة" من طراز فريد، لا من الطراز العتيق الذي كان عليه جده الأكبر، الذي توارثت العائلة تاريخاً غير مشرف له في عمليات الختان الفاشلة.

حين قطع الحلاق حكاياته فجأة وقال لي بجدية: "لا مؤاخذة هاتعبك معايا لحظة"، لم أفهم قصده، وهو لم ينتظر أن أفهم، بل بادر إلى إمساك عضوي من منتصفه، ورفعه إلى أعلى بثبات انفعالي ملفت، وبدأ يحلق ما حوله، وحين لاحظ ارتباكي المروّع، لأني لم أكن أتوقع أن تمتد الحلاقة إلى ذلك المكان القريب نسبياً من موضع الخُرّاج، قال لي معتذراً إن هذه تعليمات الدكتور تحسباً لأي تطورات خلال العملية. وحين أدرك أن جملته غامضة وتثير القلق من نيات الدكتور الذي أثق بسمعته الطبية، لكني لا أعرف تاريخه العقلي والنفسي، لذلك عاد الحلاق الخبير ليقول لي مبتسماً: "وأهوه يعني زيادة الخير خيرين، وانت عارف إن حلاقة العانة فريضة وليها ثواب كبير". ولكي لا ندخل في نقاش فقهي لا يتحمله الموقف عن الفرق بين السنة والفريضة، قام ببراعة بتغيير الموضوع ليكشف لي سراً من أسرار مهنته، وهو أن أكبر خطأ يقع فيه أي حلاق مستشفى مبتدئ في حالة كهذه، هو أن يقوم بالإمساك بالعضو الذكري للمريض من رأسه ولا مؤاخذة، لأن ذلك سيؤدي إلى انتباه أعصاب المريض، فيحدث انتصاب غير مرغوب فيه يزيد الموقف حرجاً، وأنه تعرض لذلك الإحراج في بداية مشواره المهني، ثم اكتشف بالتجربة أن الإمساك بعضو المريض من منتصفه أسلم وأفضل له وللمريض وللعضو.


أدرك الحلاق أنه بكلامه يَعُكّ الدنيا أكثر، فقرر طمأنتي بالقول إن المرضى كلهم، من ذكور وإناث يشعرون بالحرج، حين يقوم بحلاقة عوراتهم حين يكونون مضطرين لذلك، وينسون أنه مع التعوّد والتكرار لم يعد ينظر إلى موضع العورة بوصفه مكاناً ذا خصوصية محرجة أو معيبة، بل هو مجرد جزء من الجسم، "زي أي حتة في الجسم"، لكنه يضيف أن حرج الرجال على أي حال، أرحم من حرج النساء، ومن ضيق أزواجهن وأقاربهن الذي يصل أحياناً إلى رفض الاستعانة بخدماته تماماً، ليظل منتظراً خارج غرفة المريضة، حتى يُحسم الجدل بين الأقارب والطبيب، لينتهي الأمر في أغلب الأحوال بتسليمه أدوات الحلاقة لأقارب المريضة، ليقوموا بتنفيذ المهمة بأنفسهم، بينما يكتفي هو بالوقوف خارج الغرفة منتظراً تسلّم عهدته، وهو يكتم انفعالاته الغاضبة من أولئك الحمقى الذين يظنون أن ما سيراه "أمَلَة يعني" لا يمتلكها أحد في العالم غير نسائهم، والذين لا يدركون بسبب غرقهم في التخلف، أنه لا يختلف كثيراً عن الطبيب ودكتور التخدير وطاقم التمريض، وأنهم لو أطلقوا عليه في المستشفى "اختصاصي تجميل" بدلاً من تسميته بالحلاق، لاختلف التعامل معه، ولما جرؤ أحد على التحفظ أو الاعتراض، "لكن هتقول لمين، الجهل نور".

انتهى الحلاق من عمله السريع والمتقن في منطقة الخُرّاج وأطرافها وتخومها، ليقوم بتغطيتها بالملاءة، ثم يبدأ في مسح الفخذين والساقين بأكملهما بمُطهّر، بعدما قال إن هذه أيضاً تعليمات الطبيب المكملة لعمله، ثم أضاف مبتسماً أنه في العادة لا يحب الرغي مع "مرضاه"، مع أنه يصعب أن تجد حلاقاً لا يحب الرغي، وأن هذه الخصلة الغريبة كانت تسبب له مشاكل مع بعض زبائنه في صالون الحلاقة، الذين كانوا يعتبرون صمته قرفاً منهم، لكن عمله في المستشفى جعله يغير تلك الخصلة، لأنه أدرك أن المريض يكون في قمة توتره قبل دخول غرفة العمليات، ولذلك أصبح يسترسل في الحكي مع أي مريض، خصوصاً إذا كان سيجري عملية في منطقة محرجة، "زي سيادتك كده"، متمنياً أن يكتب الله ذلك التودد في ميزان حسناته، ومضيفاً أن أكثر ما يضايقه في عمله هذا، هو فهم بعض المرضى وأهاليهم له خطأً، إذ يقومون بمنحه إكراميات مالية، يرفضها طبعاً، لأنه يعتبر نفسه كادراً طبياً، والطبيب الذي يحترم نفسه لا يصح أن يتقاضى أجره مرتين. صحيح أن بعض الأطباء سامحهم الله يأخذون هدايا على سبيل المجاملة من مرضاهم، لكنه في النهاية ليس طبيباً، "حتى الآن".

وهو يضع عِدّة شغله في حقيبته الجلدية الصغيرة، التي دخل الغرفة وهو يتأبطها باحترام شديد لها، سألني: "عارف سيادتك مين أكتر حد بارتاح في التعامل معاه في المستشفى؟"، ولأنني لم أكن سأجيب، بادر للإجابة: "الميتين، عليهم ألف رحمة ونور"، وحين رأى اندهاشي الذي غلب تحفظي، قال لي موضحاً بحماسة، أنه حين يموت مريض داخل المستشفى بسبب خطأ طبي، أو حين يحين أجله وهو نزيل فيه، "الشر برّه وبعيد عنك"، يرشحه مسؤولو المشرحة للأهالي، ويوصون باستدعائه إن كان في إجازة، بعدما اكتسب سمعة حسنة بسبب عنايته الفائقة، بتنظيف الموتى وتزيينهم، حتى يراهم أهلوهم في أحسن صورة، وأنه يلبي النداء دائماً دون تذمر ودون أن يطلب جزاءً أو شكوراً، لأن "حسنات الشغل مع الميتين مش زي أي حسنات"، قبل أن يضيف ضاحكاً: "غير إنك مش مضطر ترغي معاهم أصلاً، لإنهم خلاص بطلوا توتر وعرفوا إن التوتر مالوش أي لازمة"، ثم تمنى لي السلامة وخرج من الغرفة، فيما كنت أفكر أنني سأظل أتذكره بقية عمري، كلما كرهت عملاً أو وظيفة، أو صادفت من يكره عمله أو وظيفته، أو توترت.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.