شمس للبامبينو!

شمس للبامبينو!

05 نوفمبر 2018
+ الخط -
كان لي في لندن صديقة وزوجها مصريان شديدا الالتزام. وكانا يتضرران بشدة من مشاهد العري والحميمية في الشوارع والحدائق ووسائل المواصلات. وكان هذا هو سبب الفراق النفسي بينهما وبين البلد طوال فترة إقامتهما الطويلة فيها..


في السكن، وقع حظ صديقتي في جارة إيطالية من جنوة. في البداية توجست من جيرة الأجنبية، بالذات والشقتان لهما ما يشبه الشرفة الخلفية المشتركة، لكنها مع الوقت والتعارف اطمأنت وشعرت بقرب الثقافة الإيطالية المتوسطية لنا. فالسيدة "حشمة" ولا تظهر بطنها وساقيها في عز الشتاء كالإنكليز "الوقحين". بل كانت كثيرا ما تغطي رأسها في الشارع بشال الرقبة من باب طلب الدفء، فيبدو كالحجاب.

وكانت صديقتي تضحكني حد البكاء وهي تعلق على ذلك فيما بيننا بمثل: "سبحان الله! شوفتِ الحجاب عليها جميل ازاي! ربنا يهديها للحق يا رب". وكانت تشير بعد ذلك لالتزام الكاثوليك مقارنة بما تراه من "بلاوي مالهاش مِلة" هنا في إنكلترا.


وبدا لي أن عقلها الباطن كان يدفعها للتقرب من الإيطالية والتودد لها شيئا فشيئا على أمل أن تدخل في الإسلام مثلا! فوجدتها تتبادل معها وصفات الطبخ، وتحرص على إهدائها عجينة الطعمية المصري بدعوى أن فلافل الحمص الشامية التي تملأ الأسواق لا تكافئ روعة طعميتنا، وتعلمها بعض الكلمات العربية، وتشكر في نظافتها وتهويتها لبيتها مثلنا.. فهي تُخرِج "الفَرش" للشمس ولا تتركه "يكمكم" كالإنكليز "البغيضين المكمكمين"، وتطري على حسن تأديبها لصغيرها. "مش زي الإنكليز قلالات الحيا".

وعرفت منها أن الإيطالية حامل في شهورها الأولى، وكانت متحمسة لمساعدتها بكل طريقة، حتى إنها أخبرتها عن "المغات" كشراب فرعوني سحري لتغذية المرضع بعد الولادة، وبدأت تفكر فيمن يحمله لها من مصر لكي تعده لها مع اقتراب موعد ولادتها!

وهكذا ظلت في اقترابها من جارتها حتى انقضى الشتاء الإنكليزي الكئيب وبدأ الصيف. ولاحظنا أن السيدة الإيطالية تتخفف من حشمتها تدريجيا بفعل الجو، وكانت صديقتي تمتنع عن التعليق على ذلك ولسان حالها ينبئ ببعض الاستياء وخيبة الأمل.

إلا أن ظني أنها تشبثت بالرجاء في هداية الطليانية برغم كل شيء. فقد قضت شهوراً طويلة من الصحبة والجهد، ولن تفرط في هدفها السامي لمجرد ارتداء السيدة للشورتس! كما أن الدعوة لله تحتاج إلى الحِلم والصبر وإرخاء حبال الود والتفهم حتى يدخل المطلوب لحظيرة الدين طوعا لا كرها.. هكذا ظننتها تفكر.

حتى جاء اليوم الصيفي الذي وجدتها فيه تأتيني ساخطة تلعن الغربة و"العيشة في بلاد الكفار". ولما ذكرتُ لها الجارة الإيطالية الكاثوليكية المحافظة كاستثناء واجب، استعاذت بغضب مشيرة أن "المواكيس كلهم زي بعض"!، وعرفت منها أنها نفضت يدها من الأجانب تماما، وأنها تيقنت من أن "الانحراف" في دمهم ولا علاج له عندما خرجت إلى شرفتها ذلك الصباح لتجد كاتيرينا الإيطالية التي ظنتها عاقلة وعفيفة وهي ترتدي لباس بحر من قطعة واحدة، وتتمدد على أرضية الشرفة بمنتهى الأريحية والانسجام، رافعة ساقيها لأعلى مفتوحتين ومستندتين إلى سور الشرفة في مشهد بدا لصديقتي الساذجة إباحياً لدرجة ألجمتها عن النطق!

ثم تفيق على صوت الإيطالية وهي تنظر إليها وتضحك ملء شدقيها، وتحييها بإنكليزيتها المكسرة اللطيفة قائلة ما معناه إن "البامبينو" في بطنها سعيد جدا بشمس يوليو الرائعة.. وها هو يتحرك ويتشقلب فرحاً بها.. ودعتها للتمدد بجوارها وتحسس شقاوته بالداخل!

6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى