من التاريخ: يوم ذي قار... دروس لا تنتهي

من التاريخ: يوم ذي قار... دروس لا تنتهي

12 نوفمبر 2018
+ الخط -
تحكي كتب التاريخ والأدب قصة يوم من أيام العرب العظيمة في الجاهلية القريبة من الإسلام، رُوي فيه حديث عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو يوم ذي قار، وفيه حديث: (ذاك يوم انتصفت فيه العرب من العجم).

والناظر في كتب التاريخ والأدب يجد أثر ذلك اليوم كبيراً في الشعر الجاهلي والإسلامي، لكنه يتلاشى بعد ذلك، وعلى خلاف المعهود عن العرب في التغنّي بأمجاد الأوائل لا نجد في الدراسات المعاصرة وما قبلها ذاك الأثر المأمول ليومٍ وُصف بأنه: (انتصفت فيه العرب من العجم)!

وأما قصة تلك المعركة، وكانوا قديماً يسمّون المعارك أياماً لأنها تدوم يوماً وقد تطول فيكون لكل وقعة منها اسماً، حتى لتجد لحرب البسوس أياماً كثيرةً مثلاً؛ فيمكن اختصارها: كانت العرب في الجزيرة العربية قبائل شتى لم تعرف وحدةً سياسيةً ولا نظاماً شاملاً، لكل قبيلة نظامها ومجلسها وقيادتها، وكانت في الجزيرة مراكز تميزت عن القبائل المتبدّية بنوع من التحضّر، لكنها كانت مدعومةً من جهات خارجية؛ فكان المناذرة في العراق وولاؤهم لكسرى فارس، والغساسنة في الشام وولاؤهم للروم. فالمناذرة درع الفرس في وجه العرب، كما الغساسنة حصن الروم الأول في وجه العرب، ولا يكون أمير من المناذرة أو الغساسنة إلا أن يتم دعمه وتثبيت ملكه من سادتهم الفُرس والروم وإن كان سليل أسرة الـمُلك والقبيلة، يسلّطونه على مَن يخرج على أمرهم من القبائل، أو يتسلطون من أنفسهم على مَن يشاؤون... والكلام عن العرب الجاهليين، وليس عن شيء اليوم!!

حتى كان ملك من ملوك المناذرة، خرج في بعض أمره على كسرى، فأراده ليبطش به، ففطنَ أنّ له عمقاً في الجزيرة العربية حيث كان يعربد قبلاً، فاستقبلوه، لكنهم يعرفون أنهم لا قِبَلَ لهم بكسرى، فأشار عليهم حكيمٌ منهم أن يذهب إلى كسرى؛ فإن قتلَه ماتَ سيداً وإن رضي منه قولَه عادَ سيداً، لم يعبث به قطّاع الطرق بعد العزّ والـمُلك، ووعدَه بحفظ ماله وأهله.
فلما كان بباب سيده الذي كان يدعمه قبل مدة أمرَ به فسُجن، وقُتل في محبسه.

ولم يكتفِ بهذا، بل طالبَ كسرى الذين ائتمنَهم على أهله وماله أن يسلّموه ودائعه، عبر عملائه الجدد الذين عيّنهم في مُلك المناذرة بعد النعمان!!


وهنا كانت البداية ومفترق الطرق؛ فإما الخضوع وخيانة الأمانة وتسليم ودائع النعمان لكسرى بما فيها حريمه ونساؤه، وإما حفظ العهد والأمانة والقَبول بحربٍ من كسرى وعملائه تهزّ الجزيرة العربية وتأخذ بالقوة ما يريده سيد الشرق كسرى!!

كانت هزّةً كبيرةً للقبائل على امتداد شبه الجزيرة العربية؛ فتراجع كثيرون خافوا كسرى وبطشَه، وثبتَ قليلون على العهد للرجل شهامةً وأمانةً؛ لكنهم نظروا في الأمر، وبعد اجتماع ومشورة خرجوا بتعيين حكيم منهم قائداً؛ فكان مما قرَّره - وقد تحركت جيوش كسرى وعملائه ومعها الفيلة وما لا يعرفه العرب حينها من السلاح والعتاد - اختيار موقع المعركة في وادي ذي قار ليكونوا في مرتفع والماء عندهم ويكون أولئك بعيدين عن الماء، ثم نظر في ودائع النعمان وفيها أسلحة مكدَّسة فأشار على أمينها بتوزيعها؛ فإما نصرٌ فتعود، وإما هزيمة فلا تنفع فيها وهي في مخازنها. ثم نظر وإذ النساء معهم، فقطعوا سروج الهوادج فنزلت النساء في أرض ذي قار وانكشفت للعدو؛ فإما نصرٌ وحفظ الأعراض، وإما هزيمة فالأعراض مستباحة ولا تحميها الهوادج حينها!

وكانت المعركة في ذي قار، بعدد يسير من العرب من بعض القبائل ومتطوعين من قبائل رفضت قبائلهم المشاركة فخرجوا والتحقوا بالمعركة فرادى، وكان ما خُطط له من عطش الأعداء وتعذُّر وصولهم للماء وتحميس النساء للمقاتلين، والنيل من كسرى وجنده وحلفائه.
بهذه المعطيات التي تحكيها كتب التاريخ كان النصر في ذي قار وقتل قادةٍ من جيش كسرى وأسر آخرين.

أما كسرى وقيصر فما زالا، وما زال زبد الحقد من أشداقهما يتنزَّى، وشهوة الاستيلاء على كل ما في أيدي العرب تستعر، وأمّا عمّالهما فكثيرون وما زالوا على غرور النعمان يومذاك أنه ملكٌ عظيمٌ حاكمٌ بأمر كسرى أو قيصر أو هرقل، ولا يصحو الواحد منهم إلا بعد أن يضحّي به سيدُه تحت أقدام الفيلة ممن يذلّون أكثر ويبذلون أكثر.

لم يقتنع كثيرون حتى اليوم أن القوة التي تكون للحاكم أو قائد الفصيل من الخارج لا تستر عورةً ولا تحفظ ملكاً أو تُديم سلطةً، وأن مَن يعينك اليوم على أخيك في بلد مجاور أو فصيل آخر سيُعين عليك يوماً، لأنه في تجارة؛ فإن باع غيرَه يوماً فإنه لا محالة مُباعٌ بعده، وما يحصل في الساحة السورية من هذا لا يحتاج تسمية، ونحو ذلك حال بعض الدول والمسؤولين فيها!!

لم تقتنع الفصائل في الساحة السورية أنها أُكلت يوم أُكلت حمصُ وحدَها وحلبُ وحدَها والغوطةُ وحدَها، فما عاقبة الخذلان إلا الخذلان، مع أننا منذ الطفولة قيل لنا:
تَأبَى الرِّماحُ - إنْ اجتمَعْنَ - تَكسُّراً وإنِ افتَرقْنَ تكسَّرتْ آحادَا

ثم خطر لي: بعض القادة لم يدرسوا ألبتة، وبعضهم درسَ في مدارس غير مدارسنا! فانقضى عجبي وقلت: لا يُعقل أن يكونوا قادة وهم كسالى أصلاً فاشلون بدءاً من الدراسة الابتدائية!!
وأما الاجتماع على قائد فتلك قصة أخرى ما زلنا – العربَ – متنازعين فيها من بعد النبوّة والخلفاء الراشدين، فلا عجبَ ألا تتفق بضع فصائل في الثورة السورية ممن لم يقرأوا التاريخ جيداً، أو درسوا الشرع فلم يمروا بآيات الاعتصام. لكن المؤلم أكثر أن نجد هذه الوزغة تنفث في مختلف المؤسسات، فلا يكون مديرٌ في مشروع أو مؤسسة إلا ويقوم له كثيرون همُّهم تحطيمُه وإفشالُه، ولا يكون مديرٌ لا يقدّم بين يدي (الحاج) أو (الشيخ) أو (المعلم) الكبير قرباناً من النمائم والوشايات ويُقسم - وإن لم يحلف لفظاً - على التبعية للكبير؛ وافقَ ذلك المصلحة العامة أو أضرَّ بها!!

واختيارُ مكان الواقعة درسٌ عظيمٌ أفاد منه المسلمون في معركة بدر بقيادة المعصوم صلى الله عليه وسلم، ومن بعد بدر في اليرموك وحطين؛ لكننا في الثورة السورية أصغينا للداعمين أو لأزلام كسرى وقيصر فأغضينا عن مكان المعركة، فما كانت إلا فوق رؤوس المدنيين، فتمَّ للعدو ما أراد من تدمير البشر والحجر، ونفّذنا - مختارين كثيراً من الأحيان - ما تمنّاه عدوّنا، ولم نتعلم من ذي قار ولا من بدر ولا من حطّين.

والدرس الذي فاتنا في اجتماع الكلمة على قائد واحد، والدرس الذي رسبنا في امتحانه في اختيار موقع المعركة، لم يكن أقل من درس الموارد، فهل منع سقوطَ حلب تكديس الأسلحة التي فجّرها النظام في المستودعات عندما اقتحمها؟! وكم كان سينفع أهلَ الغوطة ما تم تفجيره من صواريخ وعتاد قبيل مغادرة بعض بلداتها فضلاً عما استلمه النظام سليماً يضرب به سوريين في مكان آخر؟! وهل انتفع الأهالي الذين ماتوا جوعاً ومرضاً من مستودعات الأدوية والأغذية التي كُشف عنها بعد سقوط بلداتٍ أخرى؟! لا لا لا، ولن تنفع مَن مات من القادة أموالٌ لا يعرفها غيره له داخل الحدود وخارجها، كما لم تمنع ملايين القذافي في كل بنوك الدنيا موتَه!! فالأموال والموارد قد تغيّر مجرى معركة عند الحاجة إليها، لكنها تكون وبالاً على أصحابها إن لم يُحسنوا الاستفادة منها في حينها، وأحسن الحال فيها أن يسعد بها غيرهم أكثر مما شقوا هم في جمعها؛ فيكون عليهم الغُرم منها ويكون لغيرهم الغُنم بها.

إن أردنا أن ننتصف من أعدائنا فلنرجع فنقرأ كيف انتصفنا منهم يوماً؛ فالتاريخ مدرسة، ينتفع قومٌ بدروسه، ويكون آخرون دروساً لمن بعدهم.
FF42C82E-9059-442A-8E7C-BF37B4B60BBB
ياسين عبد الله جمول

دكتوراة في اللغة العربية وآدابها، محقق وباحث مدقق في كتب التراث لبعض دور النشر، مشرف مدرسة سورية في تركيا، مدير جمعية تعليم خيرية لتعليم الأطفال السوريين، رسالتي للماجستير مطبوعة مع أبحاث علمية وكتابات أدبية وسياسية منشورة.الحياة مدرسة يتعلم منها الإنسان ما لا يتعلمه في مدرسته وجامعته مهما علت درجته العلمية، فعلينا أن نعي جيدا عن الحياة دروسها ونعرف أسباب النجاح فيها، لننجح، كما نهتم في المدرسة بما يضمن نجاحنا في صفوفها حتى التخرج.