حب ساريدون لوجع الراس

حب ساريدون لوجع الراس

23 مارس 2017
+ الخط -
بعد توقيف محمد علي فريكة في مخفر الأمن العام عند الحدود اللبنانية، وأثناء مطابقة السجلات، تبيّن أنّ الاسم لم يكن مطابقاً لاسم الرجل المطلوب وحسب، بل إن اسم الأب "محمود" واسم الأم "مريم" هما الآخران مطابقان لاسم والدِ المطلوب ووالدتِهِ حسب الهوية!

قال لي محمد علي، فيما بعد: 

- صدقني لم أحقد على الشخص الذي يحمل اسمي، ولا على والده، فأنا أعرف أن أسماء الرجال في بلادنا تتشابه، باعتبار أن كل رجل يسمي ابنه على اسم أبيه لكيلا تندثر السلالة، أنا دخيل هذه السلالة!، ولكن أنْ يتطابق اسم أمه مع اسم أمي... (وقال بحق أم الرجل كلمتين، أكد لي، على الفور، إنهما غير قابلتين للنشر في صحيفة أو في إذاعة أو في تلفزيون!). 

وقال للضابط الذي تولى التحقيق معه: 

- يا سيدي، أرجوك قل لي: الشخص المطلوب لكم ماذا يشتغل؟ 

رد الضابط باقتضاب: صيدلي!

قال محمد علي وقد طفح كيل السخرية لديه:

- علي الطلاق من زوجتي، (ويا حبذا لو يقع عليها الطلاق، وأعاهدك وأعاهدها أمام ملأ الناس على أن أعيش بقية عمري أعزب)، أني ذقت الأمرين حتى أحصل على الشهادة الابتدائية، التي كانت تسمى على زماننا "السرتفيكا"، وتقدمت إليها ثلاث مرات متتالية، دون جدوى، وحينما كبرت اشتغلت في ألف صنعة، ولم أفلح في أي منها، فاقترح علي أحدهم أن أحصل على شهادة سواقة، وأشتغل سائقاً عمومياً. وأذكر أنهم طلبوا مني إرفاق صورة عن أعلى شهادة علمية حصلت عليها! فذهبت من توي إلى مدرسة "الفقوسة" الابتدائية، فأعطاني المدير وثيقة اسمها وثيقة إتمام المرحلة الابتدائية، وتنص على أنني وصلت إلى الصف السادس وعترست فيه كما يعترس الجحش الصغير في الوحلة!

كبت الضابط ضحكةً أَلَمَّتْ به، فاستغل محمد علي هذا الانفراج الجزئي في الأوضاع وتابع يقول:

- وأما بالنسبة لكون الرجل المطلوب لديكم صيدلانياً، فأنا نشأت، كما تكتبون في الاستمارات الأمنية، وترعرعت في قرية الفقوسة التي ليس فيها طبيب أو صيدلي أو مستوصف، ولا حتى "ضراب إبر"، وكانت والدتي، التي يشبه اسمُها اسمَ والدة ذلك الواطي الذي سبب لي هذه التوقيفة، حينما تشعر بوجع في رأسها، تبدأ بفك العقدة المربوطة في الملاءة البيضاء التي تلف بها رأسها، وحينما تعاندها العقدة تعضها بأسنانها حتى تصل إلى النقود المعدنية الموجودة داخل العقدة، وتعطيني قطعة نقدية من فئة (5ر2) قرش سوري، وهي القطعة التي كنا نسميها نصف فرنك مبخوش، وتقول لي اذهب كالطير الطائر إلى دكان "فارس الأسوم" وأحضر لي حبة وجع راس، وكان اسم حب وجع الراس في تلك الأيام "ساريدون"، أنا أعرفه، ولكن أمي لم تتعلم لفظ اسمه قط، وكنت أذهب إلى دكان فارس الأسوم وأطلب منه أن يعطيني بنصف فرنك مبخوش ساريدون، فيحك رأسه ليتذكر أين خبأ الحبايات، ثم ينطلق نحو أصفاط الراحة الحورانية، والغريبة الحلبية، وأكياس القضامة المالحة الريحاوية، فيرفعها من مكانها، ويرفع بضعة أكياس مملوءة بالشحاطات البلاستيكية من ماركة "زنوبة أم الإصبع"، حتى يصل إلى كيس صغير معقود مثل العقدة التي تخبئ أمي النقود بداخلها، فيفتح الكيس، وأحياناً يستخدم أسنانه في فتحه، ويعطيني حبتين، أذهب بهما كالطير الطائر إلى أمي التي تتناول الحبتين بلهفة، وتبلعهما، ثم تضع رأسها على المخدة وتشخص قليلاً، ثم تستيقظ وتقول لي وهي تهرش ركبتيها وبَطَّتَيْ ساقيها بعنف:

- لا يوجد أفضل من هذا الحب يا ابني، بدقيقة يروح وجع الراس، ولكن مشكلته أنه يسبب لمن يشربه حكة!

ولأن أمي محتاطة لكل الأمور ذات الطبيعة الصيدلانية، فقد كانت تسارع إلى تذويب ذرور "السبيداج" في فنجان قهوة ذي أذن مكسورة، وتذهب إلى الغرفة الأخرى وتخلع ثيابها وتدهن مكان الحكة بالسبيداج حتى تتوقف الحكة وكأنها لم تكن.

رفع الضابط يده، مشيراً لمحمد علي أن يسكت، ذلك أنه بسبب الضحك الذي داهمه لم يستطع أن يقول شيئاً، وأشار بيده إلى العنصر الواقف عند الباب، أن يأخذ محمد علي إلى النظارة، فتقدم العنصر وسحبه، ومشى به نحو النظارة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سيرة مسلسلة - يتبع

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...