افتتاحيات خنفشارية ظريفة

افتتاحيات خنفشارية ظريفة

15 ديسمبر 2017
+ الخط -
ذات مرة، قبل حوالي ربع قرن من الزمان، كنت جالساً عند بعض الأصدقاء في القسم الثقافي بجريدة "تشرين"، وجاء أحد مراسلي الجريدة ووضع كومة من الصحف الطازجة على طاولة رئيس القسم وخرج..

أحد الموجودين فتح إحدى الصحف وأدار الصفحة الأولى نحونا وقال: شباب.. مَنْ يأخذ مني (25 ليرة سورية)، حَلالاً زَلالاً، ويقرأ هذه الافتتاحية؟!

كان لمبلغ 25 ليرة، في تلك الأيام، قيمة، ومع ذلك رد عليه آخر: 

- خذ مني (50 ليرة)، حَلالاً زَلالاً، واقرأها أنت!!..

كانت قراءة الافتتاحيات، في سورية الأسد، نوعاً من العقوبة، أو الغرامة، أو دليلاً على وجود مرض "تعذيب الذات" (المازوشيّة).. لأن كاتب الافتتاحية هو نفسه الشخص الذي ترضى عنه تشكيلةُ المتسلطين من أبناء الأسرة الحاكمة، ورؤساء الشعب الأمنية السرطانية، ووزير الإعلام.. لذا أصبحت الافتتاحيات الصحافية تشبه الفاتحة العسكرية من حيثُ كونُها تتضمن البنودَ الرئيسية للخط الإعلامي الرسمي، وهي: 

أولاً- سورية دولة مواجهة، لا صوتَ فيها يعلو على صوت المعركة!.. 

ثانياً- لها قائد ملهم يعرف كيف يجعلها شوكة في حلق الصهيونية والإمبريالية والرجعية وأذناب الاستعمار!.. 

ثالثاً- إن حزب البعث العربي الاشتراكي هو القائد الحقيقي للدولة والمجتمع، ومن ثم فإن الحياة في سورية محكومة بقول القائد التاريخي (لا حياة في هذا القطر إلا للتقدم والاشتراكية)!.. 

رابعاً- قانون الطوارئ والأحكام العرفية هما ما يحمي الدولة والشعب والقيادة من الأطماع الصهيونية والإمبريالية.

خامساً- إن الحصار الاقتصادي الظالم الذي فرضته الدول الإمبريالية على الشعب السوري وقيادته في الثمانينيات يعود إلى أن هذه القيادة اضطرت لأن تقتل 60 إلى 70 ألف مواطن سوري ينتمون إلى العصابات الإجرامية المسلحة في حماه وحلب وجسر الشغور من أجل أن ينعم أفرادُه الباقون بالأمان، وهذا يتطلب اتباعَ نهج التقشف الدائم.. فإذا ما شعر القائدُ حافظُ الأسد بشعور الشعب، كما هي عادته دائماً، وأصدر مكرمة (عَطَائية) بزيادة الرواتب، أو دَعَمَ إحدى السلع الاستهلاكية، ما ترى إلا وملايين السوريين وقد فارت دماؤهم، وغلب عليهم الحب، وتدفقوا إلى الشوارع وهم يحملون صوره وأعلام الوطن، ولا يعود المواطنُ منهم إلى بيته إلا بعد أن يتحقق له أمران أساسيان: الأول أن يبح صوته من كثرة الهتاف! والثاني أن يصاب بـ (فتاقة)، من كثرة ما (يعصّ) على نفسه (ويكبس) أثناء الهتاف!

إن افتتاحية تتضمن هذه البنود (النضالية - الثورية - التصحيحية) كان يكتب مثلها كل يوم: عميد خولي، ومحمد خير الوادي، واسكندر لوقا، وصابر فلحوط، وفايز الصايغ، وعلي عقلة عرسان، إضافة الرائد الركن المظلي الدكتور تركي صقر.. وفي وقت لاحق انضم إليهم حسين جمعة، ونضال الصالح، وعلي القاسم، وغيرهم، ولم تكن افتتاحية أحدهم لتختلف عن افتتاحية الآخر إلا في عدد الأخطاء الإملائية، وارتفاع أو انخفاض نسبة الركاكة.

وعلى هذا، يا سيدي، فَقِسْ!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...