يعود الماضي يعود

يعود الماضي يعود

11 أكتوبر 2020
+ الخط -

"لماذا يخاف مسؤولونا المنتخبون من إظهار حساباتهم البنكية للعلن؟"، إذا بدا لك هذا السؤال شديد الغرابة في ظل الواقع البائس الذي نعيشه، ربما ازدادت غرابته حين تعرف أنه مطروح للمناقشة في الفيليبين، وبالتحديد في افتتاحية صحيفة (Inquirer) اليومية، التي أدانت الرئيس الفيليبيني رودريغو دوتيرتي ـ الشهير بـ"ترامب الفيليبين" وصاحب التصريحات والقرارات المثيرة للجدل والقرف ـ لأنه امتنع هذا العام عن نشر سجلاته المالية والتي يلزم القانون كبار المسؤولين في الفيليبين أن يقوموا بإتاحتها سنوياً، لتكون جميع أصولهم وأرباحهم ومسؤولياتهم المالية قابلة للتدقيق والمحاسبة، في إجراء يطلق عليه اسم SALN.

قرار الرئيس الفيليبيني شجّع كبار المسؤولين على التهرب من الإلتزام بالإجراء المتعارف عليه منذ مطلع التسعينات، ليعلن الجهاز المختص بالتدقيق المالي في حسابات المسؤولين الحكوميين أنّ حسابات وبيانات المسؤولين التشريعيين والتنفيذيين لن تكون متاحة منذ الآن لوسائل الإعلام وللجمهور، وهو ما اعتبرته الصحيفة انحرافاً عن أهداف إنشاء الجهاز والذي كان يفترض به أن يساعد في ضبط الإنفاق الحكومي ومراقبة أداء المسؤولين والنواب، خصوصاً أنّ الرئيس الفيليبيني بنى دعايته الانتخابية التي أوصلته إلى الحكم عام 2016 على شعارات محاربة الفساد والجريمة المنظمة.

إذا كنت من أبناء جيلي، سيرتبط اسم الفيليبين في ذاكرتك سياسياً باسم إيميلدا ماركوس زوجة الديكتاتور الفيليبيني السابق فرديناند ماركوس، والتي اشتهرت بثرائها الفاحش، وكونها السيدة الأكثر فساداً في التاريخ المعاصر، والتي تم ضبط آلاف القطع من المجوهرات وأكثر من 3 آلاف حذاء فاخر في خزائن قصورها، بعد أن أطاحت ثورة شعبية بحكم زوجها في عام 1986، وإذا لم تكن قد تابعت شؤون الفيليبين منذ ذلك الوقت، ستندهش حين تعرف أنّ إيميلدا عادت إلى صدارة الساحة السياسية منذ عقود، وأصبحت هي وأسرتها من أبرز حلفاء الرئيس الفيليبيني دوتيرتي، والذي جاء انتخابه مترافقاً مع الموجة الشعبوية التي اجتاحت العالم في السنوات الأخيرة، ليصل إلى مقعد الرئاسة على أمل إراحة ملايين الفيليبنيين من آثار الفقر والجريمة والغلاء الفاحش، وهو ما لم يتحقق على الإطلاق برغم أنه أطلق يد البوليس في عمليات قتل فوري لكل من ترى الشرطة أنه ضالع في تجارة المخدرات، وهو ما تم تنفيذه بشكل عشوائي مجنون، زاد الأوضاع في الفيليبين سوءاً وتوتراً.

للمزيد من التفاصيل المثيرة والمريرة عن أحوال الفيليبين من أيام ماركوس وحتى الآن، أنصح بمشاهدة فيلم وثائقي بديع بعنوان (صانعة الملوك The Kingmaker) للمخرجة الأميركية لورين غرينفيلد، لكن مشاهدته لن تكون سهلة عليك

للمزيد من التفاصيل المثيرة والمريرة عن أحوال الفيليبين من أيام ماركوس وحتى الآن، أنصح بمشاهدة فيلم وثائقي بديع بعنوان (صانعة الملوك The Kingmaker) للمخرجة الأميركية لورين غرينفيلد، لكن مشاهدته لن تكون سهلة عليك، إذا كنت من هواة استخدام ثنائيات اليأس والأمل والنصر والهزيمة التي لا يزال لديها زبائن كثيرون في بلادنا من عشاق الحلول النهائية وأنصار حسم الجدل بشعارات من نوعية "بكرا الثورة تقوم ما تخلي"، وربما كان من المهم والأقل إيلاماً ـ أو الأكثر ـ أن تشاهد بعدها فيلماً آخر لنفس المخرجة بعنوان The Queen of Versailles يتتبع سيدة أولى من نوع مختلف، لكنها تشترك مع إيميلدا في هوسها بالبذخ وإيمانها المطلق بقدرة المال على شراء كل شيء.  

حتى لا ينسي الكلام بعضه بعضاً، دعنا نعود إلى سيرة إيميلدا ماركوس التي ملّت الإقامة في أميركا وأوروبا، بعد موت زوجها الذي لم يتحمّل البقاء بعيداً عن السلطة، لتعود بحكم قضائي إلى الإقامة في الفيليبين منذ مطلع التسعينات، لكنها لم ترغب في طي صفحة الماضي والعيش بسلام، بل دخلت في صراع سياسي وقضائي وإعلامي مع الحكومة الفيليبينية التي كانت تتولى رئاستها في ذلك الوقت كورازون أكينو. كانت أجهزة ماركوس الأمنية قد اغتالت زوجها بينينو فور عودته من المنفى إلى العاصمة الفيليبينية مانيلا عام 1983، بهدف خوض مواجهة سياسية مع ماركوس، لتحمل كورازون عبء تلك المواجهة بعد اغتيال زوجها، وتنجح في الوصول إلى الحكم بتأييد شعبي جارف عقب الإطاحة بماركوس، لكن ذلك التأييد سرعان ما انحسر، برغم تحقيق كورازون أكينو للعديد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، حيث اتهمها اليمينيون والمحافظون بأنها شيوعية تكره الأغنياء وتسعى لتدمير الاقتصاد، واتهمها كثير من اليساريين بأنها ساعدت في الحفاظ على امتيازات الأغنياء وإحباط آمال الشعب الفيليبيني في حياة مختلفة عقب الثورة.

تركت كورازون أكينو الحكم بعد ست سنوات من الإطاحة بماركوس، وبعد عام ونصف من عودة إيميلدا إلى البلاد، ومع أنّ إيميلدا فشلت في الحصول على مقعد نيابي في أكثر من انتخابات تشريعية، إلا أنها استمرت في المحاولة، لتنفق ملايين الدولارات في بناء قاعدة شعبية وإعلامية توسعت عبر السنين، وتعززت بعد نجاحها في نيل عضوية مجلس الشيوخ في أواخر التسعينيات، لتفشل كل محاولات السلطات في إدخالها السجن وإجبارها على رد ثروات الفيليبين المنهوبة.

مع تواصل الانتصارات القضائية التي حصلت عليها إيميلدا في محاكم الفيليبين وخارجها، بدأت إيميلدا في التصعيد السياسي والإعلامي، لدرجة أنّها قامت في عام 2001 بافتتاح متحف وضعت فيه كل أحذيتها الفاخرة، معتبرة أنّ المتحف يهدف لدعم صناعة الأحذية التي تدهورت في الفيليبين، وأنه يعكس قدرة الفيليبينيين على تحويل الأشياء التي تحظى بسمعة سيئة إلى أشياء إيجابية،  وبعد أن فشلت في الوصول إلى سباق انتخابات الرئاسة عام 2010، اكتفت بمقعدها في مجلس الشيوخ، وقامت بدعم ابنتها إيمي التي أصبحت حاكمة لإحدى الولايات، وبعد أن تدهورت صحة أمها ـ البالغة من العمر الآن 91 عاماً ـ ورثت إيمي مقعد أمها في مجلس الشيوخ، وحصل أخوها بونغبونغ على مقعد نيابي معلناً عن طموحه في الوصول إلى حكم البلاد في القريب العاجل.   

لم يكن غريباً أن تعلن إيمي ماركوس بنت العائلة العريقة في الفساد عن ترحيبها الشديد بقرار حجب البيانات المالية للمسؤولين التنفيذيين والتشريعيين، وقالت في تصريحات الأسبوع الماضي إنّ إتاحة تلك البيانات في الماضي كان يضع السياسيين في خطر الوقوع تحت طائلة الابتزاز. وفي تعليقها على ذلك التصريح، قالت الصحيفة الفيليبينية: "هل تسمع هذه السيدة نفسها؟ ألا تعرف أنه لا يمكن أن تخضع كمسؤول أو كنائب للابتزاز إلا إذا كنت قد كذبت في الحسابات والبيانات التي قدمتها لجهاز التدقيق أو قمت بإخفاء شيء كان يجب أن تعلن عنه؟ ألا يشير تصريح مثل هذا إلى أن إيمي ماركوس يمكن أن تكون راغبة في إخفاء ما حصلت عليه من ثروة والديها الذين أدانهما القضاء بشكل قاطع بتهمة اختلاس عشرة بلايين دولار أميركي من أموال الدولة في الفترة من 1972 إلى 1986"، وهي الأموال التي تم إثبات اختلاسها بشكل رسمي، وفعلت أجهزة الدولة الفيليبينية المستحيل لكي تتم إعادتها إلى البلاد لكنها فشلت، لينتهي الأمر بقيام إيميلدا ماركوس برفع دعاوى قضائية على الدولة تطالب بتعويض زوجها عن ما تعرض له من أضرار بعد إطاحة الشعب به، لكنها لم تحصل على أحكام قضائية لصالحها، وإن كان القضاء قد سمح لها بإعادة جثمان زوجها إلى البلاد، لتضعه في تابوت زجاجي تهافت مئات الآلاف على زيارته وتقبيله والبكاء على أيامه.

في محاولة للإفلات من طائلة قانون العقوبات، في ظل حكم رئيس عرف باستهدافه الشرس للإعلام والمعارضة، سألت الصحيفة في ختام افتتاحيتها التي نشرت مجلة "ذا ويك" الأميركية مقتطفات منها: "ألا يفترض أن يحرص السياسي الشريف على تطبيق إجراءات SALN كاملة ليثبت نزاهته المالية، وهل الرئيس دوتيرتي والنائبة إيمي ماركوس أقل من أن يتصفا بالنزاهة؟"، وهو سؤال ربما فتح شهيتك للسخرية من ارتباكه وتهذيبه المضحك، لكن نِفسك ستنسدّ فوراً عن السخرية والضحك، حين تتذكر أنك تعيش في بلد لا تجرؤ فيه صحيفة أياً كان توصيفها على طرحه في العلن بأكثر الصيغ تهذيباً وارتباكاً.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.