ملك الاستقراض وملك العتابا

ملك الاستقراض وملك العتابا

04 ديسمبر 2022
+ الخط -

دَرَجَتْ، في الثمانينات من القرن الماضي، موضةُ إطلاق لقب (ملك) على المحلات التجارية، فهناك ملك المفروشات، وملك الفلافل، وملك الشاورما، وملك الحذاء.. وكانوا قد أطلقوا اللقب نفسه على بعض الأشخاص، سواء أكانوا مبدعين أم غير مبدعين، فحمل الموسيقار فريد الأطرش اسم ملك العود، ومحمد أبو سلمو ملك الموال، وثمة مَن أسمى نفسه ملك الدلعونة، وملك العتابا، وملك الهوارة.. وأما بطل سيرتنا، أبو عناد جلد الضفدع اللميع، فقد أطلق على نفسه لقب: ملك الدَيْن والاستقراض. 

هذا ما ذكرته لأبو صالح، حينما اتصل بي، وقلت له إنني سأحكي قليلاً عن مفهوم العملة والنقود قبل أن نستكمل سيرة أبو عناد.

- تفضل.

- يا سيدي نظام البنوك، على مستوى العالم كله، بالغ التعقيد، لأن البنوك تتعامل بالنقد، ومفهوم النقد تطور، ففي العصور البدائية كانوا يعتمدون على نظام المقايضة، فكنتَ تعطي للمستهلك بضاعة، وهو يعطيك مقابلها بضاعة، وهذا النظام انتهى منذ زمن بعيد، ولكنه بقي مستمراً في قرانا النائية إلى وقت قريب، إذ كان يأتي بائع ما، راكباً على جحش، يسمونه (جَرْجي)، وأصل الكلمة çerçi، تركية، وتعني السوق.. يوجد مع هذا البائع، في خُرج الجحش، أمشاط، وصابون، ومرايا، وكبب خيطان، وكشاتبين، وبعض الألبسة النسائية، إضافة إلى الغريبة والعلوك والبلضمينة، يشتري منه الناس، ويعطونه برغلاً وعدساً وقمحاً وبيضَ دجاج.. وعندما تقدمت الدول قليلاً، أوجدوا النقد الذهبي، وصارت العملة تُصنع من الذهب، كالليرة الذهبية، وفي الأيام القديمة كانوا يتباهون بامتلاك الليرة الإنكليزية، ويلقبونها (أم البنت)، والليرة الرشادية المنسوبة إلى الخليفة العثماني محمد رشاد، وقد صكت عليها عبارة أنيقة هي (عز نصره ضُرب في قسطنطينية)، والعبارة نفسها كانت تكتب على العملة الفضية، كالمجيدي العثماني، وفي وقت لاحق صارت بعض العملات، مثل الليرة السورية، تُصنع من معدن النيكل، حتى إن بعض الناس عندنا، إذا أرادوا أن يستهزئوا بإنسان ما، يقولون فلان لا يسوى نكلة (أي ليرة مصنوعة من النيكل). ومع الزمن أصبحت الدول تطبع عملة ورقية، وتضع مقابلها في البنك المركزي سبائك ذهبية، ويعتبرون هذه السبائك رصيداً للورق، أي ضمانة، وأسموها بنكنوت banknote، وهي مؤلفة من كلمتين، تعنيان "ملاحظة - البنك"، وهذا النوع من الاشتقاق أصبح شائعاً في العصر الحديث، ففي مدينة السويس المصرية، أيام بناء القناة في القرن التاسع عشر، كان يأتي رجال مصريون في المراكب، معهم بضائع مصرية، يبيعونها للأجانب القادمين إلى الميناء بالبواخر، وقد جمعوا كلمتين هما (Man وBoat)، أي رجل المركب، وصار اسم هذا الرجل "مان بوت"، ثم "مان بوط"، واخترعوا لهؤلاء البحارة رقصة عرفت باسم المَنْبُوطية، وصَحَّفَها بعض الناس فقالوا اسمها (البَمْبُوطية)، وهي رقصة رشيقة جاء في أحد أبياتها:

يا مركب الهند أبـو دَقَليـن

يـا ليتنـي كنـت ربـانـك

أسعى بك البر والبحرين

وأحمل المايّ بأخزانك

ثم بدأت بعض الدول تتخلى عن فكرة وضع أرصدة ذهبية مقابل العملة الورقية، وصاروا يقولون إن رصيد هذه العملة هو الثروة الوطنية، أي ما يوجد في الدولة من سلع وخدمات وثروات، وفي الدول الديكتاتورية المتخلفة، أخذ الطغاة يحصلون على المال الذي يلزم لهم من خلال طباعة العملة الورقية، بدون رصيد طبعاً.. وهذا يذكرني بنكتة عن رجل سافر إلى ألمانيا الغربية في الستينات من القرن الماضي، بحجة الدراسة، ولكنه أهمل الدراسة وانخرط في لعب القمار، وملاحقة النسوان، وقد لاحظ أحد زملائه في الجامعة أنه مسرف، متلاف، فسأله: حضرتك أيش تشتغل؟

قال: أنا كاتب.

دهش وسأله: كاتب يعني أديب وصحفي؟

فقال: لا والله. كاتب، يعني كلما أفلست (أكتب) لوالدي، فيحول لي نقوداً!

قال أبو صالح وهو يضحك: لا يستطيع أحد، يا أبو مرداس، أن يعرف إن كنت تحكي بجد أم تمزح.

- هذان الأمران، عندي، لا ينفصلان، فمهما كان الحديث جدياً، حينما تطل النكتة برأسها لا أستطيع تجاهلَها، ولعلمك أن حياتنا، نحن السوريين، تحولت إلى هزل، بسبب الاستبداد.. هل أضربك لك مثالاً على هذا الهزل؟

- يا ليت.

- يا سيدي (إن كنت ناسي أفكرك) بأن التضخم النقدي الذي كان ينتج عن طباعة العملة بلا رصيد، خَلَقَ، في الثمانينات والتسعينات، حالة مضحكة مبكية، فمما هو معلوم، أن الموظفين، في كل أنحاء العالم، يفرحون بزيادة رواتبهم، ويمكن أن يغنوا ويرقصوا ويوزعوا الحلويات بهذه المناسبة العظيمة، وأما عندنا فكانت زيادة الرواتب تُرعب الموظفين، لأنها تسير وفق السيناريو الآتي: قبل الزيادة بأيام قليلة، يبدأ عناصر الأمن المتغلغلون في المجتمع يبشرون الناس بأن هناك مكرمة قريبة من القائد، وهي زيادة مقدارها 25% من الراتب، مثلاً، وفي صباح اليوم الكارثي الموعود، يطل من شاشة التلفزيون على الناس واحد من المذيعين المفوهين، ويحكي عن المكرمة الكبرى التي خص بها القائدُ المعطاء حافظُ الأسد شعبَه، وهي زيادة الرواتب، وتكون فروع الحزب وفروع الأمن في المحافظات جاهزة، لإجبار الناس (الجماهير) على الخروج إلى الشوارع، في مُسَيَّرَات (عفوية)، للتعبير عن حبهم القائدَ، والامتنان له، بسبب هذه الزيادة، وتنتهي تلك الهيصة والزنبريطة على خير، وينام الناس، ويستيقظون في الصباح على خبر ارتفاع أسعار البنزين والمازوت والغاز، يترافق ذلك مع ارتفاع أسعار خمسين أو ستين سلعة غذائية أساسية، وبهذا يكون المواطن المنكوب قد ربح 25% بزيادة الراتب، وخسر 50% من دخله بسبب ارتفاع الأسعار، وقد علق صديقي أبو عناد، ذات مرة، على إحدى زيادات الراتب بقوله: صحيح أننا خسرنا مادياً، ولكننا ربحنا جسدياً، فقد دبكنا حتى تعرقت خصانا.

- طيب أبو مرداس، وماذا عن تسمية أبو عناد نفسه ملك الدَيْن والقرضة؟

- أبو عناد حكى لي، ذات مرة، أن علاقته بالدَيْن، في البداية، كانت بسيطة، يستلف مبلغاً من أحد زملائه، وعند الموعد المحدد يسدد ما عليه. والسبب أنه كان، يومئذ، أعزب، وراتبه يكفيه حتى يوم العشرين من الشهر، ولكنه بعدما تزوج، وراحت السيدة أم عناد تبظ له في كل سنة ولداً أو توءمين، تغير الوضع، وصار يستلف من أكثر من زميل في آن واحد، وإذا حان موعد السداد لأحدهم، كان يستدين من شخص جديد، ويسدد لذلك الزميل، دواليك حتى اهتدى، هداكم الله إلى البنوك، وأشياء أخرى يمكنني أن أحدثك عنها في اتصال قادم.

(للحديث صلة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...