لماذا تأخر الفلسطينيون بإنهاء وعد بلفور؟

لماذا تأخر الفلسطينيون بإنهاء وعد بلفور؟

04 نوفمبر 2022
+ الخط -

تمرّ علينا الذكرى الـ105 لوعد بلفور، الذي تدين به الحركة الصهيونية لبريطانيا، والتي لعبت دوراً مفصلياً وحاسماً في إنشاء "الوطن القومي لليهود"، وإن كانت الحركة الصهيونية قد قامت بمجهودات كبيرة، إلا أنّ مؤسس الحركة الصهيونية، تيودر هرتزل، كان يعرف أنّ سرّ النجاح في تحقيق هذا الهدف، كان في التحالف مع الاستعمار البريطاني. 

وكان هرتزل نفسه بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897 قد سجل في يومياته "اليوم أسست الدولة اليهودية، وإذا قلتها على الملأ سأكون محطّ سخرية، لكن ربما في غضون خمسة أعوام، وعلى وجه التأكيد في غضون خمسين عاماً، سيفهمون".

تتوالى السنوات، وتستمر الحركة الصهيونية في عملها الدؤوب، وقد قام هرتزل قبل ذلك برحلات مكوكية الى السلطنة العثمانية، كما التقى القادة الأوروبيين وعرض مشروعه للاستيطان في فلسطين، في إطار حل "المسألة اليهودية" لكن دون جدوى، ليأتي عام 1917 في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني منه، ولتبدأ تباشير تحقيق "الوطن القومي لليهود" في فلسطين، عبر رسالة وجهها وزير الخارجية البريطاني آنذاك، آرثر بلفور، إلى الصهيوني وولتر روتشيلد، أكدّ فيها أنّ "حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين"، ونشرته صحيفة جويش كورونيكل، الصادرة في لندن في التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه؛ ويعلّق أستاذ مادة التاريخ الحديث للشرق الأوسط في جامعة أكسفورد ومدير مركز الشرق الأوسط فيها، يوجين روغان، في دراسة نشرتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 2019 بمناسبة مرور مئة عام على تصريح بلفور، قائلاً "كان تصريح بلفور التزاماً استثنائياً من جانب الحكومة البريطانية، وكان جيشها قد دخل لتوه فلسطين ولا يزال بعيداً عن القدس، ومع ذلك فقد شعرت بثقة كافية بالنجاح، جعلتها تقدّم وعداً بأرض كانت لا تزال تحت السيادة العثمانية".

التاريخ فعل فعلته من جديد مع الفلسطينيين عبر اتفاق أوسلو، وبنخبة سياسية جديدة

من الواضح جداً أنّ هذه الرسالة كانت لا تنتهك فقط الوعود السابقة التي قطعت للشريف حسين بتحرير المنطقة مما كان يعرف "بالنير العثماني"، إلا أنّها مثلت خديعة تاريخية للعرب عبر تقسيم تلك التركة بينهم وبين الفرنسيين. وبينما كانت تسيل الدماء العربية وهي تقاتل العثمانيين، كانت بريطانيا تضع المدماك الأول لإنشاء "وطن لليهود" عبر طرد الفلسطينيين من أرضهم وإحلال اليهود بدلا منهم.

هل كان باستطاعة الفلسطينيين أن يلغوا وعد بلفور؟

بالعودة إلى تاريخ تلك الحقبة، نلمس إجماعاً من نوع ما، في أنّ السبب الرئيسي الذي دفع بريطانيا للالتزام بهذا الوعد، هو حراجة الموقف في الحرب العالمية الأولى، وحاجتها لانخراط الولايات المتحدة الأميركية في الحرب إلى جانب روسيا. وساد اعتقاد أنّ باستطاعة اليهود، والحركة الصهيونية بالتحديد، أن تمارس ضغوطاً في هذا الإطار، وبالتالي التقت المصلحتان على حساب الأرض والإنسان العربي والفلسطيني.

ليس للشعب الفلسطيني من وسيلة ليتحرّر، إلا المقاومة

وبالنظر إلى توالي الأحداث، وما خاضه الشعب الفلسطيني من صراع مع المشروع الصهيوني، والاحتلال البريطاني حتى عام 1948، هناك أمر يدعو للتساؤل عن الأكلاف الكبيرة التي دفعتها بريطانيا لتحقيق هذا الوعد على مدار تلك السنوات من سمعتها أولاً، وثانياً من الجرائم التي ارتكبتها القوات البريطانية أثناء تصدّيها للثورات التي قام بها الفلسطينييون، إصراراً منها على تحقيق ما التزمت به، وهذا مثار تساؤل لجهة حصرية دافع الحاجة إلى الحليف الأميركي، أو حتى الأطماع في المنطقة، لنصل بعد ذلك إلى طرح أهمية البعد الديني في تحقيق هذا الوعد، وهو ربما ما يفسّر الإخلاص والجهود والتأثير الكبير الذي قام به مسؤولون كبار في مختلف الدوائر الرسمية والعسكرية البريطانية لتحقيق هذا الوعد، وهو ما تحدث عنه الكثير من المؤرخين العرب واليهود.

لكن لماذا لم يستطع الفلسطينيون رغم اكتشافهم المبكر لهذا الوعد، أن يقلبوا الطاولة على الجميع، بالرغم من معارضتهم الصريحة لهذا الوعد. ربما ليس من الظلم بمكان وصف العرب بانعدام الرؤية لمخاطر المشروع الصهيوني على فلسطين، وخفّة الثقة بالمستعمر البريطاني للتخلّص من العثماني، وبغضّ النظر عمّا رضي به الشريف حسين وأبناؤه من فتات التركة العثمانية لاحقاً، إلا أنّ سلوك واعتقاد النخبة السياسية الفلسطينية التي قادت النضال ضد المشروع الصهيوني عبر "حسن النية" ببريطانيا وقدرتها على نيل الحقوق الفلسطينية، فضلاً عن الضغوط العربية التي مورست لاحقاً بعد سنوات على الفلسطينيين لإيقاف ثورة الـ1936، أخرت الفلسطينيين عن إنهاء هذا الوعد. ولو اندلعت ثورة القسام عام 1917، ولم تتأخر حتى عام 1935 بالتوّجه لقتال المحتل البريطاني إلى جانب الصهاينة، ربما كنّا أمام مشهد آخر. لكن التاريخ فعل فعلته من جديد مع الفلسطينيين عبر اتفاق أوسلو، وبنخبة سياسية جديدة، وبخفة الثقة بـ "الوسيط" الأميركي والغربي، ليتأخر من جديد حصاد ثمار نضال الشعب الفلسطيني، ولنصل إلى نتيجة نهائية مفادها، ليس للشعب الفلسطيني من وسيلة ليتحرّر إلا المقاومة.