كيف نجحوا في تحويل الناس إلى وحوش؟ (2/2)

كيف نجحوا في تحويل الناس إلى وحوش؟ (2/2)

02 ديسمبر 2021
+ الخط -

الآن، أصبح لديك خوف عميق متعدد المنابع ومتجدد القوة، ومبني على جهل راسخ وتضليل مستمر، فكيف لا تدين لك البلاد؟ كيف لا تجد بعد ذلك من يحبك لأنك في ظنه حميت مصر من أنهار الدماء، دون أن ينظر أسفل قدميه ليرى الدم وهو يغرق الأسفلت، بل إنك ستجده إن سال دم أحد أقاربه أو أحبابه يقبل عليك وأنت المتوجس خيفة منه، ليقول لك إنه يفتديك بدم أحبابه ودمه هو شخصيا، ليس لأنه يموت في سواد نور عينيك، بل لأنه تخلى عن إنسانيته التي تفرض عليه السؤال والشك والتفكير والنقد، وربط نفسه بغاية أسمى هي مكافحة الخطر الخارجي الذي أقنعته به، ولذلك سيطرد أي رغبة له في السؤال عن كفاءتك وقدراتك الحقيقية، وسيجلس في انتظار أن تأخذ له ثأره من أعداء الخارج والداخل، وعندما يراك تضحك ملء شدقيك مع أعداء الخارج وأنت تطلب منهم أن يرسلوا لك الطائرات العسكرية التي تأخرت في الوصول برغم تأمين عمولاتها السخية، لن يشك للحظة في أن أولئك "الأجانب" ليسوا أعداء كما صورت أذرعك الإعلامية له، بل سينظر إليك بانبهار لأنك تقوم بانتزاع الصواريخ من أنياب العدو لكي تضرب به أعداء الداخل المرتبطين بأعداء الخارج.

وهكذا كلما بدا أنك انكشفت في جبهة ما، قامت شبكة أكاذيبك وأذرعك الإعلامية بتغطيتها تلقائياً، لأن انكشافك الآن لم يعد أمرا يخصك، بل أصبح يخص (المواطن ـ الوحش) الذي صنعته على عينك، فهو لن يكون قادراً على مواجهة حقيقة أنه آمن بقوة خارقة لا تمتلكها، وأضاع من أجل ذلك عقله، وفقد إنسانيته حين وافق على قيامك بالقتل والقمع دون حسيب ولا رقيب، ولذلك سيجتهد هو أكثر في تغطية خوائك بأكثر مما تجتهد أنت وأذرعك، ولن يشعر بأي تأنيب ضمير وهو يراك تواصل سحق معارضيك بأشكال متعددة، لأنك حولته من إنسان يمكن أن يكترث إلى وحش يمكن أن يتفرج بشغف، بل ويغضب إذا تأخرت حصته اليومية من الاستمتاع بالظلم.

ستجد بين وحوشك التي ربيتها من يظن أنك لم تختر قمع المعارضين والغرباء من أجل مصلحة مصر وحماية لها من المساءلة الدولية، لذلك ربما تولوا بأنفسهم عنك تلك المهمة

قطعاً، سيجعلك هذا تشعر بالانتشاء، وربما ظننت أن هذا الانسحاق الجماعي يحدث بسبب مميزاتك الخاصة الفريدة، أو ربما بسبب وقوف السماء إلى جوارك، وربما صدقت ما سيقوله لك منافقوك الجدد الذين يؤكدون لك أن صمت الناس على كل ما تفعله دليل على عظمتك ومحبتهم الغامرة لك، وبالتأكيد لأنك لن تجد من يقول لك أن كل ما فعلته من إجراءات أدت لأن يفقد الناس إنسانيتهم، لن يمر مرور الكرام، بل سندفع جميعا ثمنه غاليا، كلنا ولست وحدك أنت فقط الذي ستدفع ثمنه، لم يحدثك منافقوك طبعا عن خطورة تحويل العنف إلى مزاج يومي للناس، لأنه على حد تعبير عالم الاجتماع الشهير أنتوني ستور يتحول إلى عنف غير مشبع يبحث دوما عن ضحية، وبعد أن يجهز عليها يطلب غيرها، ولذلك لم يلعب بسلاح العنف حاكم عبر التاريخ إلا ودفع ثمنه هو وكل الذين باركوه وأيدوه وبرروا له وصمتوا عليه وعارضوه أيضا، لأن العنف بأشكاله عندما يتحول إلى صناعة تمارسها الدولة، فإنه يخلق ما أسماه العالم الشهير إريك فروم (دراما التدمير) التي تحقق الإثارة لكل من يشارك فيها أو يستمتع بمراقبتها، والتي إذا أدمنها (المواطن ـ الوحش) لن يكون من السهل أن تقنعه فجأة بأهمية الإنسانية والبناء والعدالة والرحمة والشفقة وكلها أمور لا غنى عنها إن أردت أن يكون لديك مجتمع حيوي وناضج يديره نظام حكم مستقر وناجح.

عندما تتأزم الأمور، وفي كل المجتمعات البشرية دائماً ما تتأزم الأمور، ستتذكر حينها أهمية اللجوء إلى سلاح السياسة الذي اخترعه الإنسان عبر العصور لا لكي يحل مشاكله حلولا جذرية، بل لكي يمكنه الاستمرار في التحايل على مشاكله بشكل يؤدي إلى استمرار الحياة وتقدمها، لكنك ستكتشف أنك بلعبتك الدموية جعلت هذا السلاح غير قابل للاستخدام، حين قتلت السياسة وكل ما يرتبط بها من مفاوضات ومواءمات لم تستغن البشرية عنها يوما، وأعليت من شأن العسكرة وكل ما يرتبط بها من سمع وطاعة وانضباط ومنع الكلام والنقاش والاعتراض، ناسياً أو متناسياً أنه لم يوجد على مر التاريخ حرب انتهت بالنصر فقط لبسالة جنودها أو لشجاعة قادتها، وإنما لأنها كانت تعمل في خدمة السياسة الواعية المبصرة التي تعرف متى تحارب ومتى تسالم.

وقبل هذا وبعده، ستجد نفسك مواجهاً بكم مهول من الإشكاليات التي خلقتها لنفسك بنفسك، سيكون عليك مثلاً أن تطلب من مواطنيك أن يحتفوا بالسياح الأجانب، مع أنك جعلتهم خلال السنوات الماضية يتعاملون مع الأجنبي بوصفه جاسوساً حتى تثبت براءته، ولذلك سيطاردك كل فترة فيديو أو تدوينة من سائح غاضب من إساءة معاملته لأنه قام بالتصوير أو أبدى تعليقاً يضايق مواطنيك الشرفاء. سيكون عليك أن تقدم للدول المتقدمة تنازلات سياسية لكي يساعد ذلك حكوماتها المنتخبة والمعرضة للحساب على تفادي انتقادات شعوبها وإعلامها وبرلماناتها، وعندها لن يكتفي مواطنوك بالارتباك أو بتغطيتك بالمزيد من الأكاذيب والتبريرات، بل سيتملكهم غضب قاتل لأنهم يرون أعداء الوطن يسيرون إلى جوارهم بسلام وأمان بل ويعبرون عن آرائهم جهارا نهارا.

بالتأكيد، ستجد بين وحوشك التي ربيتها من يظن أنك لم تختر قمع المعارضين والغرباء من أجل مصلحة مصر وحماية لها من المساءلة الدولية، لذلك ربما تولوا بأنفسهم عنك تلك المهمة، وستكون كل اختياراتك مريرة، ولن يكون من بينها المزيد من صناعة الجهل من أجل تدعيم الخوف، لأن كل شيء في الدنيا له سقف، حتى الجهل والخوف، وعندما تصل يوما إلى سقفيهما وتفكر في خرقه، سيرتد ذلك عليك بقوة، ولن تكون قادرا على التراجع أو التقدم، وربما وجدت نفسك مضطرا لأن تنقلب على أنصارك، أو ربما سيجدون أنفسهم مضطرين لأن ينقلبوا عليك، وهو ما حدث لكثير من طغاة العالم الذين كانت نهاياتهم البشعة تأتي غالبا على أيدي أشد مناصريهم وأخلص مؤيديهم، لكن النهايات ليست حتمية وليست متطابقة، فكل إنسان يصنع نهايته باختياراته، وأنت وحدك الذي ستحدد شكل نهايتك.

لكن هذا لن يعني أنك ستفلت بما فعلت تماما، صدقني، قد يختلف الناس في أحكامهم وقراءاتهم للواقع، ومع ذلك تبقى قوانين الكون ثابتة مهما ظن البعض أنهم قادرون على مراوغتها والإفلات من نتائجها، وقد كان هناك دائما من يعتقد أنه قادر على أن يحصل على خصم خاص من الكون يمكنه من أن يفلت بما فعل، بل وحدث أيضا أن تم صناعة دول قائمة على رضا المواطنين ـ الوحوش، وبدت تلك الدول قائمة ومستقرة وواعدة لفترات من الزمن، لكن النتائج النهائية كانت كارثية دائماً، وما يدهشني أنك تقوم بتكرار سياسات تلك الدول ظنا منك أنك ستحصل على نتائج مختلفة، وهو ما وصفه أينشتاين بأنه التعريف المثالي للغباء، لكنني أعذرك فمتى كان هناك في الدنيا غبي يعترف بغبائه، أو إنسان يدرك خطورة أن يتحول بإرادته إلى وحش.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.