في وداع رجل عظيم

في وداع رجل عظيم

06 يونيو 2021
+ الخط -

في يوم السادس من يونيو/حزيران عام 2006، خسرت مصر خسارة فادحة بفقد الباحث والمناضل الدكتور أحمد عبد الله رُزّة الذي تأثرت أنا وكثيرون من أبناء جيلي بكتاباته المهمة ومواقفه المشرفة، ويومها كنت أكتب صفحة بعنوان "قلمين" في صحيفة "الدستور"، فكتبت فيها أرثيه بهذه السطور التي لا أستعيد بها اليوم فقط ذكراه العطرة، بل أذكر أيضاً بالأيام العطنة التي ظل هو ورفاقه يسعون لتغيير عفنها وفسادها حتى آخر لحظة في حياته، كتبت يومها قائلاً:

"ارحمنا الله يخليك إحنا مش ناقصينك"، قرأت هذه الجملة أكثر من مرة في الفترة الماضية، لم تكن الجملة موجهة للرئيس مبارك ولا لوزير خزانته يوسف بطرس غالي أو رئيس دَرَكه حبيل العادلي ولا حتى لأحد من موالسي الصحف القومية، بل كانت موجهة لي أنا الراجي عفو ربه، جاءتني في أكثر من رسالة ورقية وإلكترونية وسمعتها من بعض من أحبهم وأعتز برأيهم وبعض من ألتقي بهم مصادفة في شوارع المحروسة، وفي كل مرة كانت تهزني من الأعماق وتدفعني لمراجعة نفسي فيما أكتب، كل أسبوع وأنا أستعد لكتابة قلمين أحاول أن ألزم نفسي بأن أكون رفيقا بقراء (قلمين) وأن أحاول أن أبهجهم وأسعدهم كما كنت أفعل دائما، لكنني أصبحت كثيرا ما أفشل في ذلك معزياً نفسي بأنني وضعت لهذه الصفحة منذ البداية شعارا واضحا "صفحة إن لم تضحك عليها لن تضحك عليك"، ربما لأنني كنت أعرف نفسي كويّس فمهّدت لها خط رجعة منذ البداية، لكن المشكلة أن الناس مش ناقصاني، الناس تريد من يبهجها وينسيها همها وينفس عنها أحزانها، وكانت تجد ذلك كثيراً فيما أكتبه، لكنني لم أعد قادراً على فعل ذلك طيلة الوقت، ربما لأن ضغط الواقع أصبح أكثر من أن يحتمل، لذلك تسربت المرارة إلى سطوري الساخرة، وأصبحت مشغولاً أكثر بما يمكن فعله لتغيير الواقع، أكثر من انشغالي بالسخرية من هذا الواقع، وكلما اكتشفت أنني عاجز عن ذلك أنا وغيري زادت مرارتي أكثر.

منذ أسابيع قرأت مقالة للناشط السياسي البارز أمين اسكندر يدعو فيها لإدارة حوار بين مسئولي صحف المعارضة سواء كانت مستقلة أم حزبية وختم مقاله بسطور في غاية الأهمية قال فيها ما نصه: "إن صحافة التحريض والتعبئة إذا لم تنتقل إلى صحافة بناء الوعي التغييري المستد إلى المعلومات والرؤية الموضوعية المنحازة اجتماعيا فسوف تنقلب على رسالتها التحريضية وتساهم في تثبيت ما هو قائم من جراء التعود ووصول إحساس بعدم اللا جدوى عند المواطنين... ويحضرني هنا ماقامت به الفضائيات من تغطية يومية لهدر الدم الفلسطيني والعراقي حتى أصبح معتادا وغير مسبب للألم".

لست أدري ما إذا كان كلام الأستاذ أمين دقيقا أم لا، لكنني أدري أنه صادق فيما يقوله وأنه مس قلبي بشدة وربما لذلك تأثر عقلي الباطن بكلامه عندما كتبت قبل أسابيع اقتراحاً لتوفير وسيلة آمنة لمساندة القضاة دون بهدلة أو قلة قيمة للمواطن العادي، عن طريق عمل توكيلات قانونية لنادي القضاة تتبناها نقابة المحامين لمناصرة القضاة في موقفهم الخطير وغير المسبوق في تاريخ مصر المعاصر، ولم أتوقع أن تنهمر على ردود أفعال مرحبة باقتراحي بشكل لم أتخيله، فرحت لذلك كثيرا، لكن فرحتي تبددت عندما وجدت أن ردود الأفعال التي جاءتني انحصرت في مواطنين عاديين ليس لديهم مثلي أي صفة قانونية أو رسمية لتبني اقتراح مثل هذا وتحويله إلى واقع ملموس، فسعيت لإيصال اقتراحي إلى أكثر من جهة رسمية وأهلية يمكن أن تتبناه، وعدني الجميع خيرا ثم اختفوا كما كنت أتوقع.

بعدها بأيام دعت السيدة الجليلة المستشارة نهى الزيني في ندوة بنقابة الصحافيين لحملة توقيعات مليونية لمناصرة القضاة، فرحت للغاية وبدأت أترقب اليوم الذي يتم فيه الإعلان عن وصول عدد التوقيعات إلى رقم مذهل وغير مسبوق، ومرت الأيام وفطست دعوة المستشارة نهى الزيني كما مات قبلها اقتراحي باسفكسيا الركود، اعتُقل من اعتُقل وضُرِب من ضُرِب وتحدث من تحدث، لكن القضاة في النهاية بقوا وحدهم دون مساندة فعلية تجعلهم يضعون أصابعهم في عين التخين الغليظ من رجال السلطة. لا أتهم أحدا بشيء ولا أزايد على أحد، لكنني أشعر بأسى شديد وأنا أرى تضحيات القضاة ومناصريهم من الشباب تذهب لن أقول سُدى بل دون أن تجد مناصرة حقيقية وفعالة وآمنة. إذ يبدو أن غالبية المشتغلين بالسياسة في بلادنا يؤمنون أن الصراخ أسهل بكثير من الفعل، ربما لأن نتيجته تريح النفس أكثر حتى لو لم تغير في الواقع شيئا، أخذت أفكر في ذلك واسأل نفسي: "لماذا إذن نلوم الناس على تكاسلهم وسلبيتهم إذا كنا لم نستطع أن نبلور موقفا موحدا يحتضنهم ويجمع جهودهم في إطار عملي يدفع بنا جميعا إلى الأمام".

ظللت أغالب يأسي ومرارتي حتى جاءتني هذه الرسالة القاسية الصادقة من طالب ماجستير اقتصاد وقانون خاص التي يقول فيها: "أنا حاسس بإنك متغير قوي في كتاباتك مؤخرا وحاسس بالإحباط اللي إنت فيه، وصدقني لما باقرأ لك وإنت بتتكلم عن إنه لن يحصل أي تغيير طالما السكان الأصليين لمصر مكتفين بالفرجة على اللي بيحصل لبلدهم من الحكام والمعارضين، بافكر وأقول طب أنا لو عملت أي عمل إيجابي هاجيب لأبويا البهدلة وهو عنده 64 سنة وكل أمله في الدنيا ولاده مايشوفوش اللي هو شافه، إوعى تفتكر إني بابرر سلبيتي، ربنا الأعلم بكل واحد، بس هي دي الحقيقة المرة، تخيل نفسك بتنزل من البيت الصبح وإنت عارف إنك هتتسحل، أو واحد مايساويش تلاته أبيض ييجي يمرمط بكرامة اللي خلفوك الأرض، الله يكرمك ماعدناش حمل إنك تغيب عننا ابتسامة بنستناها، إنت مش حاسس بكم الإحباط والقنوط اللي في كلامك، لإنك لو حاسس بيه أكيد مش هتكتب، عاوزك تروّق كده أقولك نكتة: جوز عيال رُضّع توأم بيكرهوا بعض قوي كل واحد حط للتاني سِمّ على صدر أمه، صحيوا الصبح لقوا أبوهم ميت".

أعجبتني النكتة وهزني الصدق الموجود في الرسالة لأنه يعبر عن مرارة الواقع الذي نعيشه وعن فهم السلطة لطبيعة المواطن المصري، على عكس ما يتصور البعض بأنها تمعن في التنكيل بالناشطين السياسيين غباءً منها بينما هي في حقيقة الأمر تعلم بحكم الخبرة المتوارثة عبر "سبعة آلاف سنة قمع" أنك عندما تضرب المربوط يخاف السايب فورا ويبدأ في التنظير لعجزه وخوفه وتردده، لذلك كان بديهياً أن تجد بعد كل ما تم من تنكيل، خبراً تنشره صحيفة (الوفد) بعنوان "في وقفة النقابات المهنية احتجاجا على مقتل الجنديين الإسرائيليين.. غاب المحتجون وحضر الأمن".

رددت على رسالة الصديق محاولا استجماع أفكاري وتنظيمها قائلا له إنه ينسى أولا أنني لم أقل له أبدا إن هدفي إضحاكه أو حتى إضحاك نفسي، ثم إنه ينسى بعد ذلك  أمرين مهمين أولهما أن مسح كرامته بالأرض لايتحقق فقط بأيدي وأقدام الأمن المركزي بل يتحقق قبل ذلك بأن يعيش في وطنه كالمسلوب لا يدري من أمره شيئاً، أما الأمر الثاني فإنني لم أكن أبداً مزايداً على أحد أو جعجاع نضال، وقد قلت ألف مرة قبل ذلك أنني أحترم خوف الناس على أنفسهم وأرزاقهم وأولادهم، وربما لذلك سعيت للتفكير في وسيلة آمنة لكي يساند بسطاء الناس ـ من أمثال والد صديقنا ـ تلك الثُلّة من القضاة الذين لم يخافوا على مصالحهم ومكتسباتهم. لكنني بعد أن أنهيت ردي عليه، محوته وقررت أن أنام والصباح رباح.

لم يكن في الصباح أي رباح، على الريق فجعني خبر رحيل المفكر والناشط السياسي والبني آدم الذي لن يُعوّض الدكتور أحمد عبد الله رزة، لا أدعي أنني كنت مقربا منه أو صديقا حميما له، لكنني حزنت عليه أكثر مما حزنت على الكثير من الأقارب والمقربين، لن أستطيع أن أتكلم عنه كثيراً فقد فعل الكثيرون قبلي، ولا أظنني قادرا على تجسيد نبله وسُموِّه ورُقيِّه في كلمات قليلة، أريد فقط أن أقول إنه كان بالنسبة لي نموذجا يمشي على قدمين للنضافة في زمن يتسم بالوساخة. كأن مجرد فجيعة رحيله لم تكن كافية، بل جاءت ظروف رحيله لتضاعف الوجع والهم، هاهو واحد من المثقفين القلائل الذين لم يهتموا بالكلام والتنظير وقرروا أن ينزلوا إلى الناس ليحملوا همهم فعلا لا قولا، ها هو يموت وحيدا دون أن يدري بموته أحد، بينما الأفاقون وتجار السياسة والشعارات والكلام محاطون بالأتباع والصخب والأضواء.

ها هو الرجل الذي تعلمنا في الجامعة من كتبه القليلة والمهمة كيف لا يكون البحث العلمي مجرد رطانة أكاديمية وبغبغة تتوارى خلف المصطلحات المجعلصة، يموت دون أن تحظى كتبه وأبحاثه بالانتشار أو الإهتمام الذي حظي به الكثيرون من المديوكر والفارغون إلا من الرطانة والزيف. ها أنت تجد نفسك مطالبا بأن تحاول التماسك وأنت تجيب على أسئلة طيبة ومؤلمة تأتيك قائلة: "هو مين أحمد عبد الله ده اللي كل الناس دي زعلانة عليه.. ولما هو كويس قوي كده ليه كانوا ناسيينه وهو حي.. هو بجد كده ولا بيكتبوا ده عشان مات بس"، وفي النهاية لا تقوى على الإجابة كما لا تقوى على الكتابة عنه ورثائه لكيلا يبعث أحد إليك بأسئلة كتلك التي قفلتك من الكتابة من قبل.

يوم جنازته وفي مسجد السيدة نفيسة أخذت أبحث عن أحمد عبد الله وسط خمسة نعوش تناثرت في أرجاء المسجد الخلفية، الوجوه القليلة التي أعرفها تبدو مهزومة تحاسب نفسها على جريمة لم ترتكبها في حق أحمد عبد الله. استبعدت ثلاثة نعوش مغطاة بقطيفة موشاة بزخارف تحاول أن تكون فاخرة، اخترت نعشا بسيطا لا أدري لماذا شعرت أن أحمد عبد الله نائم بداخله في انتظار استئناف رحلته إلى جوار رب هو أرحم به بالتأكيد من ناسه الذين خذلوه وبلاده التي تجاهلته والجهلة الفاسدين الذين ملكوا أمره وأمر بلاده.

إذن هذا هو الموت. هكذا ستنتهي الليلة. آه. ونحن الذين نحسب براح الدنيا ضيقاً علينا، ناسين أننا سنفضي إلى ضيق خانق حقيقي لا فكاك منه. هل سيكون لدينا عندها ما نقدمه بين يدي الله؟ لا أزكي على الله أحدا لكنني أحسب أن أحمد عبد الله كان لديه الكثير، يكفيه أنه أفنى عمرا كثيرا يدافع عن حقوق أحباب الله من الأطفال الذين سحقهم الفقر، أخذت أتذكر ولعي أنا وزملائي في كلية الإعلام بكتابيه (الطلبة والسياسة في مصر) و(الجيش والديمقراطية في مصر)، وكيف قمت باستلهام الكتاب الثاني للاشتراك مع بعض زملائي في عمل مشروع تخرج عن معالجة الصحافة المصرية لفترة تولي المشير أبو غزالة لوزارة الدفاع وتدخل الجيش في الحياة المدنية، وعندما قلنا له ذلك فرحين فخورين عندما التقيناه في معرض الكتاب نظر إلينا نظرة لم نفهمها إلا بعد سنين عندما عرفنا كيف تعذب خريج جامعة كامبردج وهو يرى أن المجد لخريجي لاظوغلي من المخبرين وكتبة التقارير.

لكنني الآن أحسب أن كتبه الكثيرة التي لم يقرأها أناس بعدد صفحات ربعها ستكون في ميزان حسناته. قطع النداء للصلاة محاولتي التماس المزيد من العزاء في رحيل أحمد عبد الله رزة. بعد الصلاة زعق الإمام بصوت لا يتناسب مع وقار الموت بأن تُقدّم نعوش السيدات أولا، تقدمت النعوش الثلاثة الموشاة بالزخارف، ضايقني صوت الإمام الذي كان خاليا من أي خشوع وهو يلقي على الناس بشكل ميكانيكي صفة صلاة الجنازة، بعد الصلاة سارعت للحاق بالنعش الذي وجدت جمعا كبيرا من الناس يهرعون لحمله، فرحت لأن هناك كثيرين تذكروا أحمد عبد الله ابن حي عين الصيرة، قلت لعل من بينهم ناخبين أسفوا على عدم إنتخابه في برلمان نجحت فيه الموقوذة والمتردية ونجح فيه كثيرون من الذين أكلهم السبع.

شعرت بثقل أحمد عبد الله في نعشه وهو النحيف ممشوق القوام، فتعجبت وتذكرت ما يقال عن ثقل وزن الميت، وأخذت أدعو له بأن يثقل الله ميزان حسناته، أخرجني من بين أفكاري المتضاربة صوت ينادي على اسمي، التفت فوجدت المهندس أحمد بهاء الدين شعبان يناديني، التفت لأجده ينظر إليّ مشفقاً وهو يخرجني من الجنازة: "ده مش أحمد عبد الله.. احنا دفناه الصبح"، فقد خافوا عليه من أن تتغير رائحته أكثر وقد ظل ليلة وأكثر ميتا وحيدا بين كتبه وأبحاثه ومشاريعه التي أجهضت.

لماذا جذبتني من الجنازة يا أيها الرجل النبيل، لماذا لم تتركني أستمتع بوهم الجنازة الحاشدة لرجل عاش عمره من أجل الناس والحقيقة؟ سؤال كان فاتحة لهجمة من أسئلة مربكة موجعة خرجت من عقر نفسي لتداهمني متصلة بأسئلة طالما سمعتها كثيرا منذ أن عادت (الدستور) إلى الصدور وعدت معها إلى الكتابة بعد سنين حاولت فيها أن اشتري دماغي لكنني فشلت.

"ما هي فائدة أن يكون الإنسان مستقلا ومعارضا لكل ما يراه خطئا ثم يموت وحيدا هكذا؟ هتاخدوا إيه من الكتابة؟ لماذا يستمر الإنسان في الكتابة وهو يعرف أنه لن يتغير شيء؟ لمن تغني مزاميرك يا داود؟ طب وبعدين؟ أليس أمرا حقيرا أن يموت الإنسان قبل أن يتغير الواقع الذي حاربه طيلة عمره ولو قيد أنملة بل يزداد سوءا؟".

قبل أن تلومني على أسئلة كهذه بذمتك ودينك ألم تراودك هذه الأسئلة وأنت تقرأ (الدستور) وغيرها من الصحف المعارضة، وأنت تنظر إلى أحوال بلادنا التي تصبح فيما باتت فيه دون أن تتغير إلا إلى الأسوأ، ألم تقل لنفسك يوما وأنت تقرأ عن تنكيل المعارضين واعتقالهم وشرشحتهم وانتهاك حقوقهم: "طب وبعدين.. هنفضل كده لحد إمتى؟".

بذمتك أليس هذا سؤالا بشريا مشروعا؟ "هنفضل كده لحد إمتى؟"، لا تظن أنني ساذج لدرجة أنني أعتقد أن الأحوال يمكن أن تنصلح ونعيش في المدينة الفاضلة فجأة لأن (الدستور) وغيرها من الصحف تكتب وتعارض، لا، فأنا أعلم أن الدنيا لو انصلح حالها لربما فقدت سبب وجودها، وأن الحياة مبنية على دفع الناس بعضهم لبعض، هكذا أراد لها الله، لكنني لا أحلم بالمستحيل، أحلم فقط بأن أرى بلادي تتغير مثلما تغيرت دول مجاورة لنا كانت تعيش في دياجير التخلف والظلم والفساد لكنها قالت لنفسها كفاية وتغيرت، أحمد عبد الله رزة كان يحلم بذلك وأستغفر الله العظيم ما الذي كان سيحدث بس يا رب لو شاهد القليل من حلمه يتحقق؟

كان يمكن أن تقضي هذه الأسئلة علي وتفضي بي إلى، لن أقول الكفر والعياذ بالله بل إلى اليأس وهو باب الكفر، لكن الله أراد أن يلطف بي، ليس لأنني أهل للطفه، بل ربما لأن دعاء أمي في صلاة الفجر لازال يحرسني، أو ربما لأنك نفسك عزيزي القارئ دعوت لي يوما ما في ساعة رضا وكانت أبواب السماء مفتوحة.

بعد ساعات من جحيم الأسئلة وفي المساء كانت إجابات ناجعة قاطعة جامعة مانعة تأتيني على كل ما سألته وعلى كل ما نسأله، الغريب أنني طالما مررت على هذه الإجابات دون أن ألتفت إليها، ولعلك كذلك، أو ربما لأننا هجرنا الكتاب الذي يحتوي على هذه الإجابات، ربما لأننا أصبحنا نعتبر أن من يبحث عن الإجابات فيه درويش أو إخونجي أو عامل فيها شيخ. كانت الإجابات كلها على رف من رفوف مكتبتي، كتاب قلما فتحته. كتاب اسمه القرآن الكريم. والإجابات كانت في خواتيم سورة من سوره اسمها سورة (هود)، تلك التي اشتهرت لدينا في قوله عليه الصلاة والسلام "شيبتني هود وأخواتها"، وأزعم أننا لم نفكر كثيرا في أن نسأل لماذا شيّبت سورة هود نبينا صلى الله عليه وسلم، وربما لو كنا سألنا هذا السؤال لما كان حالنا كما هو عليه، ولما صرنا أناسا لا يجاوز القرآن حناجرهم، ولما صارت مقاطعة الجبنة الدانماركية أحب إلينا من تغيير حالنا المزري وامتلاك أسباب القوة والعزة ورفض أن يحكمنا أراذلنا.

كانت مرة من القلائل التي أستمع فيها منصتا خاشعا إلى مقرئ في عزاء، ربما لأن روح السبوبة لم تكن تتملكه، ربما لأنه لم يكن مشغولا باستعراض الحضور والنظر إلى ساعته والتفكير فيما طبخته المدام على العشاء. كان عزاء الفنانة القديرة هدى سلطان رحمها الله مليئا بالفنانين الذين يغرون بالفرجة كما يفعل المقرئون عادة في العزاءات الفنية، لكن هذا الرجل الجميل كان شيئاً آخر. انتشلني صوته الصادح بكلام الله من حيرتي ويأسي وأفكاري المرهِقة واقتادني إلى طريق يحيطها الروح والريحان والسكينة.

لم تشيبني سورة هود، لأنني لست نبياً ولا ولياً. ربما لأنني إنسان خطاء ضعيف، أراحتني سورة هود، كأنها جاءت هدية سماوية لي، لتعيدني إلى كثير مما كنت قد تهت عنه، كأنها جاءت لتطمئنني على أحمد عبد الله رزة، وتقول لي إنه اختار الطريق الصحيح، كأنها جاءت لتقول لي أن اليأس يحبط العمل، كأنها جاءت لتطمئنني على أن الذنوب التي تثقل كاهلي يمكن أن يغفرها الله لي لو ظللت أرفض أن أركن إلى الذين ظلموا.

بالتأكيد لن تعصمني سورة هود للأبد من أخطاء قادمة ومن هبات يأس مقبلة، فما سُمّي الإنسان إلا لنسيه وما سُمّي القلب إلا لأنه يتقلب، لكنني لن أظل طويلا في حيرتي وأنا أبحث عن روشتة الدواء بعد أن وجدته وجربته، ولذلك إذا سألتك نفسك الأمارة باليأس يوماً ما: "طب وبعدين.. هنفضل كده لحد إمتى؟"، دع خواتيم سورة هود تساعدك في الإجابة:

"ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تُنصرون. وأقم الصلاة طرفي النهار وزُلفاً من الليل إن الحسنات يُذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين. واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أُترفِوا فيه وكانوا مجرمين. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين. وكلا نقُصّ عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين. وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون. وانتظروا إنا منتظرون. ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون".

لا تنتظر مني المزيد من الكلام فليس بعد كلام الله تعالى كلام. فقط اقرأ الفاتحة على أحمد عبد الله واطلب له الجنة ونعيمها ولنا الصبر والسلوان والتغيير.

دلالات

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.