رمضان وهلالة... وسيرة الأدباء الظرفاء (1)

رمضان وهلالة... وسيرة الأدباء الظرفاء (1)

04 ابريل 2022
+ الخط -

اتصلت بي المدام "هلالة"، من مدينة أمستردام الهولندية، في اليوم الثاني من أيام شهر رمضان، وأخبرتني أنها ستشد رحالها، غداً، إلى ألمانيا، لتزورني، فتحقق حلماً غريباً، هو أن تلتقي بي شخصياً، وتَسمع أحاديثي عن قرب، وبالأخص ما أرويه من سير الأدباء والفنانين، وطرائفهم. وقبل أن تغلق الهاتف قالت لي إنها، وزوجها وطفليها، حصلوا قبل أيام على الجنسية الهولندية..

وأضافت: عقبى لعندك، وعند كل حبايبنا السوريين.

بعد سفر استمر حوالي سبع ساعات، بسيارة زوجها الذي بقي في أمستردام من أجل رعاية طفليهما، وصلت المدام هلالة إلى مدينة "إلمسهورن"، منفاي الحالي في ألمانيا، ونزلت في فندق رويال، واتصلت بي، وأعلمتني بوصولها، وأنها ستكون سعيدة إذا مررت بها في الفندق بعد موعد الإفطار.

بعدما سلمت عليَّ بقبضة اليد، مثل الملاكمين؛ وهو السلام الذي ابتكره البشرُ خلال أزمة كورونا، دعوتُها لنجلس في أحد مقاهي المدينة.. خرجنا من الفندق، ومشينا باتجاه المقهى على الأقدام، لأن الطقس، في تلك العشية، كان صحواً، على غير العادة، والمسافات في "إلمسهورن" ليست طويلة.

في الطريق قلت لها:
- في إلمسهورن، وربما في كل دول العالم، توجد مقاهٍ للشباب، وأخرى للختايرة، ولعل أشهر مقهى للختايرة هو الذي يجلس فيه صديقي الأديب ميخائيل سعد، في كندا، مع مجموعة من أصدقائه الختايرة الذين يتناقصون سنة وراء سنة، إذ يذهبون فرادى إلى اللحد الذي (صار لحداً مراراً)، على حد تعبير شاعر الفلاسفة أبي العلاء المعري الذي أوصى أن يُكْتَبَ على قبره في المعرة البيتَ التالي:
هذا جناه أبي عليَّ 
وما جنيتُ على أحدْ

وعلى فكرة، يا هلالة، أنا وميخائيل سعد من أكثر الأدباء السوريين اعترافاً بالـ خَتْيَرَة، وأملاً بحياة أطول.. أنا شخصياً ورثتُ هذا الأمل من أستاذي حسيب كيالي الذي كتب إليَّ من دبي سنة 1991، وكان، وقتئذ، في السبعين من عمره، أنه الآن ختيار (واستخدم كلمة: مصوفِن!)، ولكن صحته جيدة، وهمته عالية، ويشعر بأنه سيعيش مئة سنة! 
قالت هلالة: الله يطول عمرك أبو مرداس. أنا لم أتخيلك، في يوم من الأيام، إلا صحيحاً معافى.

قالت هلالة وقد احمر وجهها من التأثر: أنا أحب هذه الأغنية جداً. يا الله ما أجمل كلماتها ولحنها

قلت: شكراً. وإني لأعتذر لك، فقد كان حرياً بي أن أتجنب سيرة الموت، ولكن، اعلمي أنني لا أكترث له، ليس لأن الموت أمر بسيط، ولكن لأنه حتمي، وكل ما أتمناه أن أعيش حتى أكمل مشاريعي الأدبية قبل أن أتوكل.. وبالمناسبة، ذات، مرة كتبتُ هذه الفكرة على الفيسبوك، فمازحني أحدُ الأصدقاء بتعليق ذكي للغاية، فقال:
- تدعو الله أن يحييك حتى تنجز مشاريعك الأدبية، ولكن، على علمي أن مشاريعك الأدبية كثيرة، وقد لا تنتهي في المدى المنظور...!

المهم، يا ستي، وعلى سيرة المقاهي، كان في دمشق، قديماً، مقاهٍ يرتادها الأدباء، أشهرها مقهى البرازيل الذي بكى بعض الأدباء حزناً عليه عندما أغلقوه، وفي مقدمتهم الأديب الكبير عبد السلام العجيلي، الذي قال:
قف بالطلولِ، وقل يا دمعتي سيلي
أخنى الزمانُ على مقهى البرازيلِ

وقد حَمَلَ ذلك المقهى اسمَ البرازيل، على ما أعتقد، للتأكيد على أن القهوة التي تُقَدَّمُ فيه برازيلية خالصة، يعني غير مغشوشة.. مع أن العجيلي يؤكد، في القصيدة الرثائية ذاتها، وجودَ الغش، إذ يقول عن المقهى: 
كأنَّ جدرانَـه لم تَحْـوِ ندوتَـنا
ولا تَضَارَبَ فيه القالُ بالقـيـلِ
ولا سقانا "خليلٌ" فـيـه قهوتَهُ
مغشوشةً بشعيرِ الهنـد والفولِ

ولأنني ورثتُ عن أستاذيَّ الكبيرين، عبد السلام العجيلي وحسيب كيالي، عادةَ الاستطراد، فقد خطرت في بالي الآن حكايتان. الأولى عن شاعر سوري ظريف كان يحب القهوة حباً جماً (لست متأكداً إن كان عبد الرحيم الحصني، أو سعيد قندقجي).. وكان، ذات يوم، مسافراً بالبولمان من دمشق إلى حمص، ونزل في استراحة بمدينة النبك، وقال للنادل:
- الحقني بفنجان قهوة سكر زيادة، لو سمحت.

ولما أحضر النادل القهوة، تذوقها، فوجدها سيئة جداً، فأكمل الفنجان على مضض، وأخرج من حقيبته ورقة وقلماً، وكتب:
شربنا قهوةً من دون بُنٍّ
وسُكَّرُها أقلُّ من القليلِ
ولولا قلةُ التسخينِ فيها
لقلتُ بأنها ماءُ الغسيلِ

والحكاية الثانية بطلها سجانٌ اسمه "خليل".

قالت هلالة: يستحيل أن تحكي أنت سالفة لا تعرّج فيها على السجن.

قلت: صحيح، مع أنني، شخصياً، لم أسجن قط، ولكن السجن يشكل من حياتنا، نحن السوريين، ركناً أساسياً. نحن، يا ستي، نُسجن بلا محاكمة منذ أن عُقدت الوحدة العربية التي غنى لها محمد قنديل، من كلمات بيرم التونسي وألحان عبد العظيم عبد الحق، أغنية: 
وحدة ما يغلبها غلابْ 
تباركها وحدة أحبابْ
توصلنا من الباب للبابْ 
ولا حايل ما بين الاتنينْ
ولا حاجز ما بين الاتنينْ

قالت هلالة وقد احمر وجهها من التأثر: أنا أحب هذه الأغنية جداً. يا الله ما أجمل كلماتها ولحنها.

- نعم يا هلالة، الأغنية جميلة جداً، ولا تنسي أن مبدع كلماتها هو الشاعر بيرم التونسي، معلم الشعر الغنائي الكبير الذي تتلمذ على يده معظمُ الشعراء الغنائيون الكبار في مصر، خلال عصر النهضة.. ولكن الكلام الوارد في القصيدة، برأيي، غير صحيح، فبيرم التونسي كتب القصيدة بعاطفته وليس بعقله، مثل معظم الأشعار الغنائية التي كتبت عن الوحدة.. والدليل أن مصر وسورية ليستا دولتين متجاورتين، ومن ثم فإن قوله (لا حايل ما بين التنين، ولا حاجز بين التنين)، غير صحيح، وثمة حوائل وحواجز كثيرة، ففي تلك الأيام؛ إذا أردتِ أن تسافري (بَراً) من مصر إلى سورية، أو بالعكس، فلن تستطيعي ذلك إلا بطلوع الروح، لأنك ستضطرين للعبور في دول بالجوار غير مشتركة بالوحدة مع مصر وسورية، والدخول إليها، حتى ولو عبوراً، يحتاج إلى جواز سفر ساري المفعول، عليه تأشيرة دخول.. وللعلم فإن تأمين مثل هذه التأشيرات بين الدول العربية، وما يستتبع ذلك من موافقات إدارية وأمنية، كانت شبه مستحيلة.. وعلى كل حال الوحدة انتهت، منذ سنة 1961، وبقيت أغنية محمد قنديل الرائعة "وحدة ما يغلبها غلاب" التي لحنها عبد العظيم عبد الحق خلال نصف ساعة.

قالت هلالة: واو. أغنية صمدت ثلاثة أرباع القرن، وهي ملحنة في نصف ساعة!!!

قلت: نعم. وبالمناسبة. أوشكنا على الوصول إلى المقهى. تفضلي سيدتي.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...