خلطة جديدة ممتعة في دراما الجاسوسية (1/2)

خلطة جديدة ممتعة في دراما الجاسوسية (1/2)

01 سبتمبر 2021
+ الخط -

بالتأكيد لن تسمع اسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طيلة أجزاء مسلسل الجاسوسية الناجح The Americans الذي تدور جميع أحداثه قبل أن يظهر بوتين على خشبة المسرح الدولي، ومع ذلك لن تستطيع أن تغفل حضور بوتين الذي يلقي بظله على العمل بأكمله، والذي لا تستطيع أن تفصل نجاحه ولا فكرة إنتاجه، عن حالة الحرب الباردة التي عادت لتتأجج ثانية بين الولايات المتحدة وروسيا، منذ صعد بوتين إلى السلطة، بشكل أعاد إلى الأذهان وقائع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي طيلة عقود طويلة في القرن العشرين، اختار صناع المسلسل منها تحديدا فترة نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات لتكون مسرحاً زمنياً لأحداثه، مركزين على فترة تصاعد المقاومة الأفغانية ضد الاتحاد السوفيتي، والتي قامت الولايات المتحدة بدعمها عسكرياً ومادياً واستخباراتياً.

وبرغم كل الاختلافات التي حدثت منذ ذلك الوقت، إلا أنك لن تستطيع أن تمحو من خيالك وأنت تتابع أحداث الماضي، وقائع تصاعد الحرب الإعلامية والسياسية بين أمريكا وبين روسيا، بالذات منذ أن تولى باراك أوباما رئاسة أمريكا وتولى بوتين رئاسة روسيا، فتسأل نفسك: كم جاسوساً عمل خلال هذه السنوات ولا يزال يعمل داخل البلدين، وكم خلية جاسوسية تم توظيفها على الجانبين مثلاً خلال أزمة أوكرانيا، بنفس الشكل الذي نراه يدور في المسلسل خلال احتلال روسيا لأفغانستان، وهو ما لم يكن غائباً بالتأكيد عن خيال صناع المسلسل الذين تابعوا وقائع الحرب الدبلوماسية التي دارت بين البلدين خلال السنوات الماضية وتبادل الاتهامات بتورط العديد من الدبلوماسيين في وقائع جاسوسية استوجبت ترحيلهم من البلاد على الفور.

يقدم مسلسل "الأميركان" في جميع مواسمه وببراعة كل ما ينتظره المشاهد المحب لأعمال الجاسوسية، من تشويق وإثارة وإيقاع متصاعد، ومن مشاهد جنسية محكمة الدراما وغير مجانية، تكرس فكرة ارتباط الجاسوسية بالجنس التي تعود الجمهور على مشاهدتها في أفلام الجاسوسية، والتي ربما رأينا منها النسخة "المحتشمة" في مسلسل (رأفت الهجان) أشهر مسلسلات الجاسوسية العربية، التي طرحت نموذج الجاسوس قاهر حصون الأعداء وقلوب نسائهن، لكن مسلسل The Americans يضيف إلى تلك الخلطة المضمونة بعداً جديداً هو (العائلة).

كان التوتر الدرامي لأحداث الجزء الأول الذي بدأ عرضه عام 2013 سيصبح أهدأ بكثير، لو كان صناع المسلسل قد اختاروا أن تكون تلك الجيرة مقصودة من الزوجين الجاسوسين

يطرح المسلسل فرضية درامية رئيسية هي: ما الذي سيحدث لو قامت المخابرات السوفيتية KGB بزرع ثنائي من الجواسيس داخل المجتمع الأمريكي، بعد أن تم تجنيدهما في سن الشباب المبكر، وتدريبهما على أعلى مستوى، ومحو أي لكنة مثيرة للشك من إنجليزيتهما، ثم تم ربطهما معا وبشكل رسمي كزوجين، لينتقلا إلى أميركا، ويعيشا فيها وينجبا ولدا وبنتا، يحملان الجنسية الأميركية، ثم يمارس الزوجان عملها من خلال شركة سياحة، في منطقة قريبة من العاصمة الأمريكية واشنطن، ويندمجان في المجتمع الأميركي بشكل كامل لا يدفع لإثارة أي شبهات، لتتابع عملهما وتدعمه لوجستيا ومعلوماتيا، وتراقبه أيضا خلية جاسوسية مكونة من أشخاص سبق أن اندمجوا في المجتمع الأميركي من فترة طويلة.

ما يعطي هذه اللعبة مزيداً من الإثارة والتشويق حتى نهاية آخر أجزاء المسلسل، هو أن المشاهد يكتشف منذ البداية، أن جار الزوجين الذي يسكن المنزل الملاصق لهما، يعمل ضابطاً في وحدة مكافحة الجاسوسية التابعة للمباحث الفيدرالية الأمريكية، وهو ما يكتشفه الزوجان بالصدفة بعد توثق علاقتهما بالجار، ومع أن تلك هي الصدفة البارزة الوحيدة في العمل، وشرع الدراما يبيح ثلاثة صُدف كبيرة في بعض المذاهب، بشريطة إتقان زراعتها في الأحداث، إلا أن هذه الصدفة لا تبدو مقحمة على الأحداث بشكل فج، لأن اختيار المنطقة التي يسكن فيها الزوجان ويعملان بالقرب منها، تم بحيث تكون نفس المنطقة التي يسكن فيها أهم مسئولي ومنتسبي الجهات الحكومية الرفيعة الذين يعملون في العاصمة الأمريكية، ومن بينهم بالطبع مسئولو وكبار ضباط المباحث الفيدرالية الأمريكية التي يقع مقرها الرئيسي في واشنطن، مما يعطي لتلك الصدفة الكثير من التبرير الدرامي الذي لا ينتج عبارات قاتلة للفرجة مثل "مش للدرجة دي يعني.. لأ دي وسعت منهم على الآخر".

بالطبع كان التوتر الدرامي لأحداث الجزء الأول الذي بدأ عرضه عام 2013 سيصبح أهدأ بكثير، لو كان صناع المسلسل قد اختاروا أن تكون تلك الجيرة مقصودة من الزوجين الجاسوسين، لكنهم اختاروا لها أن تحدث بالصدفة، لنسج تناقض درامي طريف ومثير للتأمل، وربما لذلك اختاروا ألا يصبح الجار الضابط داخلاً في نطاق عمل الزوجين الجاسوسين، وألا يقوما مثلا بزراعة أجهزة تنصت في ملابسه أو حقيبته، فحتى حين تطلبت الأحداث ذلك الزرع، تم عن طريق غزل علاقة عاطفية بين الجاسوس البطل وبين سكرتيرة يائسة عاطفياً تعمل في نفس المكتب الذي يعمل به الجار.

ولأن ذلك الاختيار الدرامي بعدم تحويل الجار إلى هدف يبدو منطقيا لتأمين هوية الزوجين أكثر، وعدم المخاطرة بكشفهما بشكل أسهل، فقد أدى إلى خلق تفاصيل رائعة، من بينها أن نرى كيف يشعر الضابط الأمريكي بالوحدة بعد انفصاله عن زوجته، فيتخذ من بيت الزوجين الجاسوسين ملاذاً عاطفياً له، وكيف تتوطد صداقته بالزوج، بل ويشعر نحو ابن الجاسوسين بمشاعر الأبوة التي يفتقدها منذ رحيل ابنه عنه، وفي ظل ذلك الواقع العبثي برغم منطقيته، نرى كيف ينفذ الزوجان عمليات بعضها خطير ودموي، يكون بعض زملاء الضابط الجار أحيانا هدفا لها، لكن وبسبب براعتهما في التنكر، لا يتمكن ضباط المباحث الفيدرالية الأمريكية FBI من تحديد ورسم ملامحهما بدقة، ولذلك لا يتعرف الجار عليهما أبدا، بل نراه يشكو أحيانا بتلقائية لجاره الجاسوس من ضغوط العمل التي تلاحقه، دون الدخول في تفاصيل تخل بسرية عمله، ونراه في مشهد شيق، يشاهد الزوجة وهي تشكو من إصابات في وجهها، كانت قد تعرضت لها خلال عملية بالأمس على يد زميل له، وحين يطمئن عليها، تروي له أكذوبة عن سقوطها في السوبر ماركت، فيتمنى لها الشفاء وقد صدق ما روته له، ويواصل الطرفان حياة الجيرة اللطيفة التي تجمعهما.

يتم تسخين أحداث المسلسل أكثر، حين يضطر الجاسوسان فيليب واليزابيث إلى اصطحاب ابنتهما بيج وابنهما هنري إلى عملية دامية، كان يمكن أن يتعرضوا فيها جميعا للتصفية، وتبدأ الابنة الذكية التي تعيش تقلبات فترة المراهقة في الشك في والديها وتفاصيل حياتهما، فتظن في البداية أن أباها يخوض علاقة عاطفية مع امرأة أخرى، فتواصل الحفر وراءهما بهدوء يزيد من توتر الأحداث، ثم تتطور الأمور بعدها، حيث يصل المسلسل إلى أقصى حد ممكن في استثمار فكرة الصراع بين طبيعة مهنة الجاسوسية وطبيعة العائلة، حيث يتلقى الزوجان أمرا من قيادتهما في المخابرات السوفيتية KGB بضرورة البدء في تحضير ابنتهما، لكي تتلقى تدريبها كجاسوسة صاعدة، خاصة وأنها قد أصبحت في نفس السن الذي بدأ فيه تدريبهما في الاتحاد السوفيتي، وهو قرار نبع من أن استثمار الابنة للعمل كجاسوسة سيكون أسهل وأكثر فائدة، في ظل عدم وجود أي شكوك تحيط بالعائلة، وحين يحاول الزوجان التملص من ذلك، يتم تذكيرهما بصرامة بأن هذا الطلب ليس قابلاً للنقاش، لكن الأمر يتعقد أكثر وبشكل مثير للسخرية، حين تتجه ابنتهما إلى التدين، وتتخذ من قسيس في كنيسة مجاورة أباً روحياً ومصدرا للثقة، فينشأ توتر مكتوم بين أبوين لا يعلنان إلحادهما على الملأ، وبين قسيس ينافس الأبوين في الرعاية والاهتمام، لينتهي الأمر بمفاجأة تقلب موازين العمل، لا أريد أن أحرقها لك، إلا اذا اعتبرت ما سبق حرقاً يستوجب الغضب لأنني أفسدت مشاهدتك، بينما أزعم أنه كان تشويقاً لك لكي تشاهد أجزاء المسلسل دفعة واحدة.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.