حين سألت عادل إمام عن صديقه عبد الحليم (2 من 3)

حين سألت عادل إمام عن صديقه عبد الحليم (2 من 3)

16 ديسمبر 2020
+ الخط -

بدأت إجراء الحوار بعد اختبارات طويلة للضوء والصورة، لم يتدخل فيها الأستاذ عادل إمام كما كان يتوقع بعض العاملين، حتى أنه حين عرض عليه المخرج أن ينظر إلى صورته في "المونيتور" بعد تسجيلها، قال له إن هذا ليس عمله وإنه يثق فيما يقومون به، وظل جالساً في انتظار إشارة البدء، وحين بدأت إلقاء أسئلتي، انطلق الأستاذ عادل في إجاباته بمزاج رائق، وتحدث بحميمية وحماس عن عبد الحليم، بل وقام بدندنة بعض أغانيه، فكدت أنا والمخرج أن نسجد لله شكراً لأنه بذكائه المعهود منحنا ما يمكن أن نبني عليه "برومو" في غاية الروعة، ولولا أنني كنت محكوماً بإجراء الحوار فيما لا يزيد عن نصف ساعة، لواصلت حواري معه لفترة أطول.

بالطبع لم يتم حذف شيء مما قاله عادل إمام، لكن تم حذف ظهوري أنا في الحوار، ليقتصر على لقطتين يتيمتين، تم حذفهما بعد أن تركت القناة في نهاية العام، ليقتصر إذاعة الحوار بعد ذلك على ما قاله عادل إمام فقط، حتى أنهم حذفوا بعض اللقطات التي قاطعته فيها، لكي يظهر في الحوار منفرداً، وحين حاولت الحصول على نسخة مسجلة من الحوار الأصلي لم أنجح في ذلك لأسباب متوقعة طبعاً، لكنني لحسن الحظ احتفظت بنسخة صوتية سجلتها من البرنامج، قمت في عام 2000 بنشرها في مجلة "لها" التي كان الصديق الأستاذ محمود سعد يدير مكتبها في القاهرة، وإن كنت قد ترجمت الحوار إلى الفصحى الممتزجة بقليل من العامية، لأن إدارة المجلة تحفظت على نشره بالعامية كاملاً، وقد ساعدني نشر الحوار على دفع الإيجار في أحد أشهر الزنقة والفَلَس، ليكون ذلك فضلاً جديداً يسبغه عليّ عادل إمام، مع أن علاقتنا كانت قد انقطعت وقتها لفترة، قبل أن يسعدني الزمان بعودتها من جديد.

أتركك الآن مع نص الحوار الذي حكى لي فيه الأستاذ عادل إمام عن صديقه وأستاذه الحميم عبد الحليم حافظ، وأرجو أن تقرأ الأسئلة والإجابات ولا تقوم بحذف أسئلتي مثلما فعلوا في الـ ART:  

ـ بعد 23 عامًا على رحيل عبد الحليم حافظ، ما الذي بقي منه ومن فنه في وجدان عادل إمام على المستوى الفني والإنساني؟

عبد الحليم حافظ كان حالة فنية شديدة الخصوصية، كان قائد ثورة فنية، هكذا أعتبره، قائد ثورة بكل ما للكلمة من معان. عندما تفتحت أعيننا على الحياة وأحببنا أن نغني، لم نجد أمامنا سوى عبد الحليم حافظ. هو الذي قادنا إلى الغناء، كما أحببنا على أغانيه. أذكر أنه عندما كنّا مراهقين نحب أو في طريقنا إلى الحب، سمعنا عن عبد الحليم، كان له أغنية خفيفة هي "على قد الشوق اللي في عيوني يا جميل سلِّم". سألنا: مين ده، فقالوا: اسمه عبد الحليم حافظ، تشوقنا لرؤيته ومعرفة شكله ولم يكن قد اشتهر بعد.

في ذلك الوقت كان كل من يغنون نشعر أنهم آباؤنا يغنون لنا. هم كانوا عظماء، يعني، عبد الوهاب وعبد العزيز محمود وكارم محمود ومحمد عبد المطلب، وبالمناسبة عبد المطلب كان صديقاً لوالدي وكان يسكن في منطقتنا (الحلمية)، لكن كنا نحس أنهم يغنون لنا كآباء ونحن أطفال. أما عبد الحليم حافظ فشعرنا أنه كان يغني لنا ومعنا، كان يغني لي شخصيًا أنا كعادل. وعندما بدأ يغني "نار يا حبيبي نار" و"جبار" وغيرهما من الأغاني بدأنا كجيل نحس بتغيير كامل في مسار الغناء، وبدأنا ننظر إلى البنات بحب، ونعيش حالات الشجن ونحب على أرضية عبد الحليم وأغانيه. عبد الحليم حافظ هو الذي علّمنا الحب.

ـ ما هي التجربة العاطفية التي خاضها عادل إمام وارتبطت بأغنية لعبد الحليم؟

إنت عارف الشاعر الكبير أحمد رامي. يحكون أنه ظل لفترة طويلة يكتب قصائد حب في محبوبة متخيلة تطل من شباكها، وبعد فترة اكتشف أنه لم تكن هناك محبوبة وأنها كانت "قُلّة محطوطة على الشباك طول الوقت" (يضحك). أنا حصل لي العكس. في سن المراهقة كنت أحب فتاة تسكن في شارعنا، كانت تطل من الشباك وكانت جميلة، كنت أغني وفي داخلي عبد الحليم حافظ وأنظر إليها بشغف، وللمرة الأولى شاورت لي وأنا أنظر إليها، رحت مشاور لها بكل حب، وأنا بشاور لها وأغني رحت واقع في بلاعة ـ حفرة ـ كانت موجودة في الشارع (يضحك). كانت تجربة فظيعة جدًا في ذلك السن.

بعد أن عشقنا صوت عبد الحليم بدأنا نراه في الأفلام، فوجدناه شخصًا بعينين واسعتين وملامح رومانسية وشكل كلاسيكي جميل. كان فيه أيضاً قوة الضعف، ولم يكن يفرض نفسه وملامحه على المتلقي، بالعكس يجد المتلقي نفسه مشدودًا إلى رؤية عينيه الواسعتين والغائرتين الجميلتين. عبد الحليم لم يغن فقط بلسانه وقلبه، بل غنى بعينيه أيضًا. كان لديه إحساس بالجملة التي يغنيها. مثلاً عندما يغني "قالت يا ولدي لا تحزن"، الشجن الذي يسكن عينيه. عيناه فيهما حزن رغم أنه يقول "لا تحزن" ـ يقلده وهو يغني ـ كان مبدعًا في الحقيقة.

ـ كنت في عز شبابك عندما تفجرت أغاني عبد الحليم الوطنية، كيف تصف إحساسك وانفعالك بها؟

في البداية كنا كجيل معتادين على الأناشيد الوطنية وبعض أغاني الأستاذ عبد الوهاب، وكان له جيله ولونه وجمهوره الكبير. في أيامنا كان هناك مد قومي عربي فجرته ثورة يوليو ثم حرب 56 وخناقة البنك الدولي. وجدنا عبد الحليم يقول أناشيد وأغاني وطنية بطريقة غير تقليدية، فجأة وجدناه يغني "راح على البنك اللي بيساعد ويدي.. قال له حاسب قالنا ما لكومش عندي..". ثم يصعد صوته ليهتف ونحن معه "ضربة كانت من معلم.. خلّت الاستعمار يسلم..".

كنا كلنا نهتف معه في الفصول والمدارس والجامعات. كان جو مختلف تماماً عن كل الأغاني الوطنية التي سبقته، كانت تنبض بحب حقيقي للوطن. وساعده على ذلك المد الثوري والثقافي الذي كان موجودًا، القومية العربية وحبنا لأن ينضم إلى العلم المصري نجوم عربية ترصعه. وكان عبد الحليم يتحرك مع غليان الشعب العربي ضد الاستعمار والاستيطان الإسرائيلي. وكان كل هذا يسعدني كشاب، وكنت أحس أنني عملت هذا كله وأن لي فيه وأنني مشارك فيه. كنت أحس أنني عملت هذا كله وأن لي فيه وأنني مشارك فيه. كنت أهتز عندما غني عبد الحليم للفدائيين: "أموت أعيش ما يهمنيش.. علم العروبة باقي فدائي" (يغنيها) وكان يقدم أغانيه على شكل صور تسمعها وتشاهدها أيضًا. ثم لا تنسى أن عبد الحليم لم يكن في كل هذا وحده، كان حوله أعضاء مجلس قيادة ثورته، كمال الطويل والموجي وبليغ حمدي وعلي إسماعيل وصلاح جاهين ومرسي جميل عزيز والأبنودي ومحمد حمزة أيضًا.

أذكر بمناسبة محمد حمزة أنني عندما أصبحت صديقًا لعبد الحليم وبدأت أدخل بيته وجدت محمد حمزة. وكان هناك بعض من يحيطون بعبد الحليم حافظ غير راضين عن وجود محمد حمزة ومتخوفين منه، لكن عبد الحليم بذكائه دافع عنه بشدة. وبالفعل كتب له بعد ذلك عددًا من الأغنيات التي نجحت نجاحًا كبيرًا، وكان هذا ذكاءً شديدًا من عبد الحليم وبليغ حمدي، كان لديه قدرة على اكتشاف الموهبة.

ـ لكن أغاني عبد الحليم الوطنية هذه هي التي جلبت له الاتهامات من بعض المثقفين بأنه مطرب سلطة؟

يعني إيه مطرب سلطة؟ هل كان يغني في مجلس الشعب مثلاً؟ لا.. لا، كان سيفشل، أنا لست من أنصار هذا الكلام، ثم يعني إيه سلطة؟ هل جمال عبد الناصر هو الذي كان يلحن له أغانيه؟ هل كان يقول له: غني هذه الأغنية بالذات؟ لا أعتقد. في رأيي هذا كان إحساسًا طبيعيًا نابعًا من تلك الفترة وفرحًا بانتصارات القومية العربية. وعبد الحليم كان يغني بصدق دائماً في الأغاني الوطنية والعاطفية، ولم يكن مطرب مصر فقط، كان مطرب البلاد العربية كلها.

ـ اللقاء الأول لعادل إمام المستمع بعبد الحليم المطرب كان في أغنية "على قد الشوق"، ماذا عن اللقاء الأول الشخصي بين عادل الممثل الشاب وعبد الحليم نجم النجوم؟

في ذلك الوقت كنا متحمسين ونأخذ المسائل بجدية وعمق، ونطلق الشعارات والكلام الكبير والخطير. وكنا في جلساتنا كشباب من الفنانين والمثقفين نتحدث عن عبد الحليم باستعلاء ورفض، بينما نحن نغني له في حبنا وعشقنا ونحبه. وعندما نراه في سهرات أو تجمعات ننظر إليه باستعلاء ونضحك ساخرين (يضحك بشدة) كما يفعل البعض تجاهي الآن.

مرة كنت في كافتيريا أنا ومجموعة من أصدقائي، فدخل عبد الحليم، نجم كبير وعظيم ولم أكن التقيته أبدًا وكنت أنا قد بدأت نجاحي في "مدرسة المشاغبين". نظرت إليه ثم أشحت بوجهي متعاليًا وأكملت حديثي مع أصدقائي، ففوجئت به يقترب ويقول لي "إزيك يا عادل". قمت فورًا وأخذته بالحضن وقلت له: "إزيك يا حليم". هذا هو عبد الحليم حافظ، قال لي "إنت عامل إيه... أنا متابع شغلك... إحنا ما بنشوفكش ليه". وهكذا فورًا صارت صداقة بيني وبينه، من غير أي مقدمات، وكانت صداقة ممتعة جدًا وللأسف الشديد كانت في آخر خمس سنوات من حياته، ابتداء من بدايات "مدرسة المشاغبين".

كنت أذهب إلى عبد الحليم في منزله باستمرار، وأخضر جلساته مع الملحنين الكبار والكتاب الكبار، وكان يمتعني جدًا أن أجد نفسي وعبد الحليم حافظ شخصيًا يغني لي. كنت أمتلك سيارة صغيرة جدًا ماركة هيلمر، كانت أصغر سيارة في الدنيا وصناعة مصرية، لكن كان يمتعني جدًا أنني كنت أركبها وإلى جواري عبد الحليم حافظ وكانت تجلس أحياناً معنا في المقعد الخلفي زوجتي هالة الشلقاني وكانت وقتها حاملاً بابننا رامي، وعبد الحليم يجلس معنا ويتجول معنا ويغني معنا. منتهى السعادة التي في الدنيا. أذكر مرة أنه مرّبي في منزلي فقلت: "يا عبد الحليم في واحد صديقنا بيتجوز، ما تيجي نعمل له مفاجأة ونروح نزوره". وافق فأخذته في سيارتي وذهبنا إلى منزل العريس، فتحت العروسة لنا الباب، سألتها عن العريس فقالت لنا "ده في القسم"، سألتها "ليه؟"، قالت: "أصله اتخانق مع بابا وماما وراحوا القسم"، نظر إلي عبد الحليم بعينه البراقة وانفجر ضاحكًا وكاد يغمى علينا من الضحك وكنا دائماً نتذكر هذا الموقف ونضحك.

ـ كنت وقتها لا تزال في بداية طريقك وهو على القمة، ألم تكن تشعر أنه أحيانًا يتعالى على من حوله، ولو قليلاً؟

إطلاقًا. عبد الحليم كان موهوبًا موهبة حقيقية، والموهوبون يكونون بسطاء جدًا. التعالي هو من سمات عديمي الموهبة. أذكر أن الأستاذ محمد حسنين هيكل حكى لنا عن مقابلته مع أينشتاين هذا العالم الجليل، وفوجئ كيف كان معه في غاية التواضع والرقة والبساطة، رغم أن أحدًا لن يلومه لو تكبر قليلاً. وهكذا هم الموهوبون دائمًا. علاقتي بعبد الحليم تطورت لأنه كان هناك إعجاب متبادل. كان يأتي إلى المسرح ليتفرج على مشاهد من مسرحيتي. أذكر المرة الأولى التي جاء فيها ليتفرج على "مدرسة المشاغبين". طبعًا كان لدينا تقاليد مسرحية ولا نسمح لأحد غير الممثلين بالصعود على خشبة المسرح. بعد انتهاء المسرحية وفي تحية الممثلين قمت أنا وسعيد صالح وشددناه من يده من على الكرسي ليصعد على خشبة المسرح، كنا نشعر بالفخر والفرح وكانت ليلة لا تنسى. في مسرحية "شاهد ما شافش حاجة" كان يأتي من كواليس المسرح لكي يتفرج على مشهد المحكمة.

ـ سمعت أنه كان يفعل ذلك يوميًا. هل هذا صحيح؟

صحيح، كان يأتي يوميًا تقريباً ليضحك في مشهد المحكمة واستمر ذلك حتى وفاته. أريد أن اقول للذين يتهمونه بالتعالي، كنا أنا وعبد الحليم نجري وراء أحمد عدوية في الحفلات عندما كان عدوية "مكسر" الدنيا. وكان عبد الحليم سعيدًا جدًا بنجاح أحمد عدوية، مع أن الصحافة كانت تقول إن عدوية يهدد عرش عبد الحليم.

...

نختم غداً بإذن الله

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.