تناتيش ونغابيش

تناتيش ونغابيش

01 ابريل 2021
+ الخط -

من أجمل وأفضل ما قرأته تعليقاً على الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، مقال كتبه الكاتب السوري محمد الماغوط الذي كان عظيماً في الشعر عندما كتب (الفرح ليس مهنتي)، وكان عظيماً في النثر عندما كتب (البدوي الأحمر)، وكان عظيماً في المسرح عندما كتب (كأسك يا وطن)، وكان عظيماً في السينما عندما كتب (الحدود)، وكان عظيماً في السخرية السياسية عندما كتب (سأخون وطني)، وإذا لم يكن حظك عظيماً فلم يُتح لك أن تقرأ له من قبل، دعني أضع بين يديك هذا المقال الذي كتب فيه قائلاً:

"التوتر الحالي الذي تعيشه المنطقة أو الظروف العصيبة التي تمر بها أو الخطر الصهيوني أو الاستعماري أو الإمبريالي.. سمّه ما شئت.. والذي يتهدد الوجود العربي من أكبر رأس إلى أصغر رأس في جميع أرجائها. العرب يعزونه إلى وجود إسرائيل. وإسرائيل تعزوه إلى الاستعدادات العربية لإزالتها من الوجود.... والأمم المتحدة تعزوه إلى عدم التحلي بالصبر وضبط النفس. والدول الثورية تعزوه إلى عدم التمسك بأهداف الجماهير. والدول المحافظة تعزوه إلى عدم التمسك بحبال الإسلام. والاقتصاديون يعزونه إلى الفائض النفطي. والخبراء يعزونه إلى أطماع إسرائيل التاريخية في المياه العربية. والعسكريون يعزونه إلى زيادة التسلح في المنطقة. وقد يذهب البعض ويلف ويدور ليصل إلى تلوث البيئة والغواصات في أعماق البحار أو القمر والزهرة وعطارد في أعماق الفضاء لطمس أسباب الحقيقي والتاريخي ألا وهو الإرهاب العربي وانعدام حرية الرأي والتعبير في هذه المنطقة.

ولذلك فكل هذه الاتصالات والمشاورات التي تجري هنا وهناك وهذه الحيرة التي تعم العواصم العربية والأجنبية حول أي القضايا الأكثر إلحاحا للبدء بحلها لا تثير في النفس إلا الأسى والحزن، لأن العرب يعرفون وأمريكا تعرف وروسيا تعرف وجزر القمر وإسرائيل أول العارفين أنه لا يمكن حل لا أزمة المقاومة ولا أزمة المستوطنات ولا أزمة الحكم الذاتي قبل حل أزمة الإنسان العربي مع السلطة، وإنهاء أحكام المقاطعة العربية المطبقة عليه بنجاح منذ عام 1948 قبل الميلاد حتى الآن.

أليس من العار بعد كل هذا التطور العلمي والحضاري الذي حققته البشرية وبعد مئات الجامعات وآلاف المدارس التربوية والفنية والأدبية والمسرحية والفندقية والتي تغطي أرض الوطن العربي أن تظل لغة الحوار الوحيدة بين السلطة والمواطن هي الرفس واللبط وشد الشعر؟

ترى لو أن إسرائيل منذ نشأتها وزرعها في قلب الوطن العربي بدأت بكمّ أفواه مواطنيها وبناء السجون وتجويع العمال وسرقة الفلاحين، وكلما احتج طبيب اعتقلته، أو ارتفع صوت أخرسته، ثم انصرفت إلى التهريب والاصطياف والاستجمام وتنقيط الراقصات في ربوع أوروبا.. هل كانت ستحتل الجولان والضفة الغربية وسيناء وتدمر المفاعل النووي العراقي وتعزل مصر وتجتاح لبنان وتتطلع إلى الهند وباكستان؟

لست أبله لكي أحاول تلخيص رواية بديعة، ولست شريراً لكي أحرق بعض تفاصيلها برغم وسوسة الشيطان لي بأن ذلك سيكون ممتعا جدا

من في أوطاننا تنشق زهرة برية أو طارد فراش أو سمع سعال عصفور عند الفجر منذ سنوات؟ من تأمل القمر أو الغروب أو شرب الماء براحتيه من ساقية منذ قرون؟ لا شيء غير القتل والنهب وسفك الدماء. لا أحد يفكر أن هناك طفولة يجب أن تنمو. شفاهاً يجب أن تُقبّل. عيوناً يجب أن تتلاقى. أصابع يجب أن تتشابك. خصوراً يجب أن تُطوّق بغير القنابل والمدى والمتفجرات.

أيها العرب أستحلفكم بما تبقى في هذه الامة من طفولة وحب وصداقة وأشجار وطيور وسحب وأنهار وفراشات.

أستحلفكم بتحية أعلامها عند الصباح وإطراقة جبينها عند المساء.

لقد جربتم الإرهاب ضد شعوبكم سنين وقرونا طويلة وها أنتم ترون إلى أين أودى بشعوبكم.

جربوا الحرية يوماً واحداً لتروا كم هي شعوبكم كبيرة وكم هي إسرائيل صغيرة".

إذا لم تكن تعرف محمد الماغوط وتفكر الآن في مراسلتي لتطلب مني إيميله لتعبر له عن إعجابك بكتابته، دعني أخبرك أن محمد الماغوط انتقل إلى رحمة الله منذ سنوات، وقبل أن تعبر عن حزنك عليه، دعني أعطيك سبباً إضافياً للحزن، هو أن المقال الذي قرأته له كتبه محمد الماغوط في ثمانينات القرن الماضي، عندما كانت إسرائيل خارجة للتو من انتخابات جديدة، بينما كانت مصر تدخل عاماً جديداً تحت حكم الرئيس مبارك.

...

الذين يحبون الروايات ويستعينون بها على وعثاء السفر وكآبة المنظر يعلمون أنها أصبحت شحيحة للغاية، تلك الروايات التي تأخذك إلى عالمها ثم تنطلق بك ومعك إلى عوالم أخرى، وتجيبك على أسئلة كانت تشغلك وتقض مضجعك، وتستبدلها بأسئلة أخرى تجعلك أكثر حيرة ولخبطة، كل هذا دون أن تفقدك الاستمتاع بما تقرأ، لتهتف بعد انتهائك من الرواية وانتهائها منك قائلاً: يا ناس أسوأ شيء في هذه الرواية أنها خِلصِت.

في روايتها البديعة (فَرَج) ستبحث مع رضوى عاشور عن الفَرَج، والمفاجأة أنك ستعرف طريقه، لكنك أيضا ستعرف طريق الذين يمنعون وصوله لمنتظريه ومستحقيه، وعندها ستفهم لماذا لا يصل أبداً. ستحكي لك رضوى عاشور عن مثقفين نبلاء اختاروا الحياة بعيدا عن هوس التنظيم والتنظير، وعن مثقفين نبلاء اختاروا الانتحار بعد أن هزمتهم امتحانات الحياة وبعد أن رفعوا شعار "كونوا واقعيين اطلبوا المستحيل"، هزمهم الواقع المستحيل تغييره.

ستحكي لك رضوى عاشور عن مشاكل الترجمة التي تهزم الحب، وعن الخلافات الصغيرة البلهاء التي تكشف هشاشة المشاعر، وعن الأرواح الجميلة التي تطير في الحياة بحكم الفطرة والاعتياد، وعن حرفة البستاني المتواضعة التي تكون أجدى في سنوات القحط، وعن سعد وهناء الذين يبقون على سلامة عقولهم وأرواحهم في زمن الريح الصفراء وانتشار الطاعون، وعن السلطة في بلادنا التي تصفها وصفا هو من أروع ما قرأت في حياتي "السلطة عندنا كربة منزل كهينة ومدبرة لا تتخلص من شيء وإن كان باليا، فتبقي قديمها المُستهلَك مع ما جلبته من الجديد في الدرج نفسه غالبا أو في أفضل الأحوال في درجين متلاصقين، تفتح هذا حينا وذاك حينا، حسب الحاجة والطلب".

لست أبله لكي أحاول تلخيص رواية بديعة، ولست شريراً لكي أحرق بعض تفاصيلها برغم وسوسة الشيطان لي بأن ذلك سيكون ممتعا جدا، لكنني أيضا لست فظاً غليظ القلب لكي أحرم القارئ من تصبيرة يستمتع بها حتى تتيح له ظروفه قراءة الرواية، والتصبيرة التي اخترتها مع سبق الإصرار والترصد سطور من مونولوج بديع يأتي على لسان عمة بطلة الرواية وهي سيدة ريفية بسيطة فهمت الحياة بشكل أفضل مما فهمها بعض نبلاء المثقفين الذين هزمتهم الحياة، تقول فيها لابنة أخيها ندى:

"الحياة واسعة وضيقة، لما نكون فيها نزرع ونقلع ونربّي ونكبّر ونشيل ونحطّ ونروح ونرجع ونطلع وننزل ونحب ونكره ونحمل الهم وننتظر الفرج، تكون واسعة، ولإننا فيها، عن يميننا ناس وشمالنا ناس وفوقنا وتحتنا ناس، الكل مهموم أو فرحان والكل فيها، تبقى واسعة، ولو وقفنا بعيد، نقول ضيقة مثل خرم الإبرة، ونقول إيه يعني نعيش عشان نموت، ونبني والبنا نهايته هدد، ونعمّر والريح تاخد، ونكبّر ونفتح كفوفنا نلاقيها فاضية، أنا باقول لما نعيشها نشوفها واسعة حتى لو ضاقت ولما نفكر فيها من بعيد نشوفها ضيقة وخانقة وبلا معنى ولا لزوم، مثلا لما اشتري كتاكيت وابص عليها وهي صغيرة وأصفرها جميل وبتعافر، وكل فرخ منها يرد الروح، أوكلها واشرّبها وانظف حواليها واصطبح بها كل يوم واشوفها بتكبر، قلبي يرفرف، طيب يا ندى لو فكرت إني اشتريت الكتاكيت عشان لما تكبر تندبح، يبقى فرحي بها ورفرفة قلبي عليها جنون، خلفة العيال مش زيّ الكتاكيت بس زيها، يعني أحمل تسع شهور وروحي تتعلق بالولد وربنا يختاره، لو الحياة مش واخداني لا أحبل بعدها ولا أولد ولا أربي ولا أكبّر ولكنها بتاخدني، تسحبني فأمشي معها، تراضيني فأرضى، تكرمني بعيل تاني وتالت، وييجي رابع يروح، ولكن الخامس يبقى، الحياة كبيرة وضيقة يا بنت أخويا".

يا جمال النبي يا دكتورة رضوى، عليكِ ألف رحمة ونور.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.