تناتيش ونغابيش

تناتيش ونغابيش

05 فبراير 2021
+ الخط -

في أحد مشاهد رواية (المرأة العسراء) للكاتب المثير للجدل بيتر هاندكه والتي ترجمتها ماري طوق وكانت من أوائل ما صدر له بالعربية قبل أن ينال جائزة نوبل للآداب، يجلس طفل ليكتب واجبه المدرسي الذي يفترض فيه أن يجيب على سؤال يقول "كيف تتصور حياة أجمل؟"، فيجيب الطفل على السؤال كالتالي:

"كيف أتصور حياة أجمل: أودّ أن يكون الطقس لا حاراً ولا بارداً، وأن تهب دائماً ريح دافئة وأحياناً تحدث عاصفة نقرفص لنحتمي منها. السيارات اختفت. البيوت ستكون حمراء والغابات ذهبية. الجميع سيكون عارفاً كل شيء ولن يحتاج أحد إلى تعلم شيء. نعيش في جزر. السيارات تبقى مفتوحة في الشوارع ويمكن أن نستلقي فيها عند التعب. ولكن أبداً لن يكون أحداً متعباً والسيارات لا تخصّ أحداً. في المساء نبقى واقفين وننام حيث نحن. السماء لا تمطر إطلاقاً. من جميع الأصدقاء يكون لنا أربعة من كل جنس والناس الذين لا نعرفهم يختفون. كل ما لا نعرفه يختفي".

مع أنني لست مهووساً بمصير السيارات مثل الطفل في الرواية، الذي ربما أسقط بيتر هاندكه من خلاله مشاعره تجاه السيارات، إلا أنني أجد تصوره للحياة الأجمل مدهشاً، يكفي أنه أدرك أن الحياة ستكون أجمل حين لا يكون فيها الطقس حاراً ولا بارداً، ولا يحتاج أحد فيها إلى تعلم شيء.

...

ـ في روايته (أساتذة الوهم) التي تقدم جانباً من الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية في بغداد خلال ثمانينيات القرن العشرين، لنرى كيف يعيش مجموعة من الشعراء والكتاب الشباب أجواء الحرب العراقية الإيرانية، والتي تورطوا فيها كجنود، وتعرضوا للقتل إلا واحداً منهم هو الذي يروي الأحداث للقارئ، يحكي لنا الروائي العراقي علي بدر عن جماعة أدبية سوريالية غريبة الأطوار أطلقت على نفسها اسم (جماعة بهية)، وقبل أن يذهب بك اسم (بهية) إلى أجواء فيلم (العصفور) ليوسف شاهين وأشعار أحمد فؤاد نجم وألحان الشيخ إمام، دعني أقل لك إن الجماعة الأدبية أطلقت على نفسها اسم (بهية) وكانت توقع قصائدها ورواياتها بهذا الاسم، نسبة إلى عاهرة كبيرة السن تتخذ من أحد ميادين بغداد مقراً لها، لكنها كما يروي علي بدر كانت في زمان مضى أجمل عاهرة في بغداد، "ويقال إنها عاشرت أكثر السياسيين العراقيين ألمعية وشهرة في الخمسينيات والستينيات، ولكنها انتهت إلى بائعة سجائر بالمفرّق، تجلس على بسطة أمام بيوت الدعارة في الميدان".

اختار أعضاء الجماعة ربط أنفسهم وأعمالهم الأدبية باسم (بهية)، وحرصوا على مقاومة الحرب بوصفها عدواً للفن، وسعوا للاحتفاء بالجنود الهاربين من الحرب وبالهامشيين والمرضى والضعفاء وكليلي البصر ومعوّقي الحرب والمقعدين الذين أطلقوا عليهم اسم (بروليتاريا الصحة) وبالعاهرات الذين أطلقوا عليهن اسم (بروليتاريا الأخلاق)، مقررين الوقوف في وجه القوة الغاشمة لسلطة حزب البعث، ولم يكن السلاح الذي استخدموه أكثر من قصيدتين ورواية شعرية، لكن نظام صدام حسين اعتبرها أسلحة فتاكة فألقى القبض عليهم جميعاً وحكم عليهم بالإعدام، ليكون حظهم أسوأ بكثير من حظ بهية.

....

ـ تخيل ما الذي يمكن أن يحدث لو كتب أديب داخل مصر اليوم السطور التالية:

"قال لنفسه: نحن المُمتهَنين في عقر دارنا، المحبوسين عن أن نرفع حتى صوتنا، المطرودين نبيع أنفسنا بالرُّخص، وبكبرياء، في شوارع الصحراوات ومدنها المجلوبة القاسية، في الميادين الخلفية والمطابخ الخلفية لعواصم العالم كله، بحثا عن الترانزستور والفيديو والفول أتوماتيك، نستهلكها وتستهلكنا في الشقق الجديدة المستحيلة، أو على شط الترعة التي ما تزال تغصّ بالبلهارسيا، نحن الذين ما زلنا نأكل المش بالدود وأعواد الجعضيض، بالرغيف الجاهز المدعوم، في أوانٍ بلاستيكية جديدة، ما زلنا بقطعة لحم عزيزة، نأخذها من الحكومة بالعظم والشّغَت، ونفُكّ الخط بصعوبة، ونطلب من الغرباء أن يملئوا لنا استمارات السفر في مطارات مالطة وطرابلس وجدة وبغداد، نحن هنا أيضا، لا يمكن إلا أن نكون هنا، نحن المضروبين، من أنا بينهم؟ نحن الغارقين في القهر المتزيّن بأطمار خَلِقَة، نحن الذين ـ برغمنا أو طوعا وقرارا منا في دخيلتنا، ننشُقُ دخان جبل القمامة المحترق المتصاعد من صناديق الشوارع وصناديق التاريخ، يلوّث بيوتنا وقلوبنا، نحن الذين يرقبوننا ويسرقوننا ويكذبون علينا ويخوّفوننا، ويجعلون نفوسنا وساحاتنا وحاراتنا قفرا وخرابا، نحن المحاصَرين الصامتين الذين نجري ونقف في الزحمة صفوفا بذيئة وراء اللقمة واللحمة، نضرب بأيدينا المتقبّضة في الظلام، ثم نترك أيدينا تسقط، نحن الذين تنقضّ فوق رؤوسنا الأنقاض، وتحترق بنا القطارات وتنقصف السيارات، وتنقلب المراكب في مياه النيل اللامبالي العميق. سوف تقول له: البلد راحت تحت أقدام الكلاب. وسوف يحس الغضب والإهانة، له وعلى الأكثر لها، هي، ولن يعرف أبداً إن كان في الغضب شُبهة إنقاذ أو شُبهة يأس".

مع أنني لست مهووساً بمصير السيارات مثل الطفل في الرواية، الذي ربما أسقط بيتر هاندكه من خلاله مشاعره تجاه السيارات، إلا أنني أجد تصوره للحياة الأجمل مدهشاً،

أعرف أنك لن تأخذ وقتاً في تخيل مصير من سيكتب هذه السطور، لأنك تعرف كثيرين تعرضوا للقمع حين كتبوا هذا الكلام في تدوينة على الفيس بوك، وربما لو كان الأستاذ إدوارد الخراط كاتب هذه السطور حياً لوجد صعوبة في نشرها داخل مصر، لكنه كان حسن الحظ لأنه نشرها في عام 1985، في رواية بعنوان (الزمن الآخر)، وهو عنوان صار مع الأسف اسماً على مسمى.

....

ـ من أجمل وأغرب إهداءات الكتب التي قرأتها، الإهداء الذي كتبته كلاريس ليسبكتور في صدر روايتها (ساعة النجمة) التي ترجمها ماجد الجبالي وحررها ياسر عبد اللطيف، والذي صدّرته بعبارة تقول "إهداء المؤلفة كلاريس ليسبكتور الحقيقية"، ثم أضافت:

"أهدي هذا العمل لشومان المسن وجميلته كلارا اللذين أصبحا اليوم عظاماً، في مكان بعيد عنا. أهديه إلى اللون النبيذي القرمزي بشدة الذي يشبه لون دمي كإنسانة مكتملة النضج، وهكذا، أهديه لدمي، أهديه خاصة للأقزام والأشباح والجنيات والحوريات الذين يسكنون حياتي. أهديه لاشتياقي لفقري القديم عندما كان كل شيء أكثر رُقيّاً وعزة، قبل أن أذوق طعم الإستاكوزا. أهديه لمقطوعة العاصفة لبيتهوفن، لتذبذبات الألوان المحايدة لباخ، لشوبان الذي يشعرني بالنشوة، لسترافينسكي الذي أفزعني ومعه قفزت في النار، لمقطوعة "موت وتحول" الذي يكشف لي فيها ريتشارد شتراوس عن قدرٍ، وأهديه إهداء خاص لعشية يومي هذا ولليوم، وللحجاب الشفاف لديبوسي، وإلى مالو نوبر، وبروكوفييف، وكارل أورف، وشونبيرج، الذين اعتمدوا لحن الاثنتي عشرة نغمة، لصرخات جيل الإلكترونيات، وإلى كل أولئك الذين استطاعوا أن يلمسوا دواخلي على نحو مرعب. رسل الحاضر الذين تكهنوا بي حتى انفجرت لأصبح نفسي. نفسي التي هي أنتم أيضاً، وليست مجرد نفسي. أنا لا أحتمل أن أكون نفسي فقط، أحتاج للآخرين لكي أستمر، ففي النهاية ليس أمامي إلا التأمل لأقع في هذا الخواء التام الذي أناله فقط بالتأمل. لا يحتاج الأمل لنتائج، يمكن أن يكون التأمل هدفاً في حد ذاته، أنا أتأمل بلا كلمات، أتأمل اللا شيء، الكتابة هي ما يشتت حياتي حقاً. لا تنس أن بنية الذرة لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة لكننا نعرف أنها موجودة. أعرف عن أشياء كثيرة لم ترها عيني. وأنت كذلك. لا يمكننا أن نقدم دليل على أكثر الأشياء حقيقة، نؤمن فقط بوجودها".

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.