تأملات عن الشتائم وفنياتها

تأملات عن الشتائم وفنياتها

18 مايو 2021
+ الخط -

أنا ولا فخر من المهتمين بالشتيمة كفن ومن متذوقيها وممارسيها في نطاق كان واسعاً لكنه أصبح أضيق بحكم الزواج والأبوة وتقدم السن والحجر المنزلي الذي حرمنا من قعدة القهوة، وأزعم أنني من المضيفين إلى قاموس الشتائم في المجال العام، وأتمنى أن أرى ذات يوم دراسة عن إسهاماتي الباسلة في هذا المجال، ومحاولاتي لرفع السقف الضيق المتاح لفن الشتيمة، والتحايل على منع نشرها باستخدام مرادفات توصل نفس المعنى "الأبيح" بمشاكل أقل.

لذلك ولذلك كله أهتم دائماً بقراءة الشتائم التي يتم إرسالها لي في صناديق البريد المختلفة على الإنترنت، وأبحث في الأساس عن وجود فنيات بها يمكن الاستفادة منها لاحقاً في الكتابة، ومع الأسف في الغالب الأعم يصادفني فقر رهيب في الخيال في أغلب ما أقرؤه من شتائم، يعني تسعون في المائة منها مثلاً يدور إما حول شتيمة الأم وأعضاءها الحميمة، أو شتيمة الأب الذي كان سبب وجودي في الكون، أو التشكيك في ديني أو هويتي الجنسية، بالإضافة إلى التخوين الذي يعتبر من الثوابت في رسائل السيساوية والوطنجية، أما التكفير و"عليك من الله ما تستحق" فهو من الثوابت في رسائل أنصار تيارات الشعارات الإسلامية، ومع أن الطرفين لا يلتقيان في الكثير من جوانب الحياة، إلا أنهما وهذا ليس غريباً يلتقيان على تكفير معارضيهم، لأن قطاعاً كبيراً من أنصار السيسي يقوم بتكفير أعضاء جماعة الإخوان ومناصريهم بوصفهم من الخوارج.

يتبدى لي فقر الخيال هذا جلياً حين أجد من يرسل لي رسالة غاضبة تنتهي بوصفه لي بأنني "لقيط"، وهو ما لو كان معلومة مؤكدة لكان أمراً مربكاً وصادماً وله تداعيات درامية تستوجب الرجوع فوراً إلى الحاجّة متعها الله بالصحة والعافية لاستيضاح الكثير، أما أن تعتبر كلمة "لقيط" بوصفها شتيمة فقط، فهو أمر يثير للضحك، لأنني كلما قرأتها في معرض الشتيمة أتذكر أشرف عبد الباقي في تلك الفوازير الجميلة التي اشترك فيها مع محمد هنيدي وعلاء ولي الدين، وقام فيها بتقليد مشهد عماد حمدي في فيلم (الخطايا) وهو يصارح عبد الحليم حافظ بحقيقة نسبه، لكن أشرف قام بتحريف كلمة (لقيط)، وقالها بنفس الأداء المسرحي المهيب: "إنت أليط.. فاهم يعني إيه أليط؟"، ومن ساعة أن رأيت هذا الأداء "الأشرف عبد الباقي" للمشهد، أصبح مخي يترجم كلمة (لقيط) فوراً إلى كلمة (أليط)، فتفقد الكلمة الأصلية شحنتها الدرامية الحادة التي يسعى بعض من يكرهني لتوظيفها في مجال الشتيمة، وتتحول إلى مسخرة لمستخدمها.

أتصور أن مبالغة البعض في شتيمتي من حين لآخر، يقف وراءها رغبة في تعويض أنني لست هدفاً متاحاً لبطشهم، ولو إلى حين، ولذلك أتعامل مع شتائمهم مهما كانت قاسية

أحياناً يلجأ بعض المواطنين الغيورين على وطنهم أو دينهم إلى استخدام كتابات نشرتها من قبل أو صور نشرتها على صفحتي في الفيس بوك وقمت فيها بالتريقة على نفسي، ويقوم هؤلاء بإعادة إرسالها لي مصحوبة بالشتائم، وهو ما أرد عليه عادة بأسئلة من نوعية: "طيب فين مجهودك يعني كمواطن شريف؟ إزاي ربنا هيوفقك من غير ما تجتهد؟ يعني حتى الشتيمة كسول وفاشل فيها؟"، وهو ما يصيب الشاتم بغضب أشد فيحاول أن يجتهد في الشتائم، لكن الفرصة تكون قد ضاعت عليه لأنني في الغالب الأعم أكون قد سبقته إلى "البلوك".

الملاحظ أيضاً أن أغلب الشاتمين يستسهلون حين يلجئون إلى المحفوظات من الشتائم، وبالأخص المحفوظات الجنسية، وسبب ذلك أن من يرسل رسالة شتيمة يكون مسكوناً بشحنة غضب يرغب أن يتخلص منها سريعاً، فيتعامل مع الرسالة بوصفها بصقة، وبالتالي لا يهتم بفنية تلك البصقة أو بالتجويد فيها، قدر اهتمامه بالحصول على الراحة التي تعقب البصق على الكاتب، حتى لو كان يدرك أن البصقة الافتراضية ليس لها مفعول البصقة الحقيقية التي كان يتمنى أن تتيحها له الظروف.

أكثر من مرة يرسل لي أحدهم رسالة غاضبة تتضمن عبارة "أنا لو شفتك كنت هاتفّ عليك"، وإذا كنت رائق البال أرد قائلاً: طيب لنفترض أن هذه الفرصة أتيحت لك وبصقت على الكاتب الذي تكرهه بصقة من التي يحبها قلبك، ما هو التغيير الحقيقي الذي سيحدث في حياتك؟ هل ستجعله بصقتك يغير آراءه التي ضايقتك ويتفق معك في الرأي ويتبنى كل ما تؤمن به؟ هل تتصور أن هناك كاتباً قام بالتوقف عن الكتابة لأنه تعرض للشتيمة أو البصق عليه؟ وهل يمكن أن يستحق وصفه بأنه كاتب ذلك الذي يتوقف عن التعبير عن رأيه لأنه تعرض للشتيمة أو الإهانة؟

بالمناسبة كنت ولا زلت أستغرب حين أجد منتمين إلى الثورات العربية أو مؤيدين لها يحتفون بتلك الفيديوهات التي يتعرض فيها مذيعون أو سياسيون موالون للأنظمة الحاكمة للضرب على قفاهم أو البصق عليهم، ولا أفهم كيف يمكن أن يتم التعامل مع تلك الأفعال الرخيصة بوصفها انتصاراً، فبغض النظر عن عدم أخلاقية أفعال كهذه لأنها أفعال جبانة ليس فيها مواجهة، فهي بالنسبة لأولئك المذيعين والسياسيين مكاسب يستفيدون منها لكي يؤكدوا انتماءهم للأنظمة الحاكمة التي لا بد أن تحافظ على مكاسبهم وتحميهم طالما تعرضوا للإهانة والتهديد بسبب وقوفهم إلى جوارها، لكنني في الوقت نفسه أدرك أن من يقوم بفعل الصفع أو البصق ليس مهتماً بتنبيهه إلى هذه الحقيقة، بقدر اهتمامه بتفريغ شحنة الغضب التي تملؤه، حتى لو أدى تفريغها إلى عكس ما يتمناه، وهو ما يشبه موقف إعلاميي السلطة ومخبريها، أو على الأقل الواعين منهم الذين يدركون أن شتيمتهم لك لن تفرق معك، لكنهم يهتمون بها ويحرصون عليها ليؤكدوا ولاءهم لمن يقوم بتشغيلهم، ويؤكدوا سلطتهم وسطوتهم لدى جمهورهم المسعور الذي يبحث طول الوقت عن شمّة وطنية لكي تهدئ مشاعره المهتاجة.

دعنا نأخذ هذه "التأملاية" إلى سياق أوسع أشير فيه إلى خطأ يقع فيه الكثيرون حين يستسهلون فكرة أن كل من يقوم بشتمهم على مواقع الإنترنت هم أعضاء في لجان إلكترونية تشرف عليها الأنظمة الحاكمة، وهو رأي يتبناه الكثير من أصدقائي لكنني لا أتفق معهم فيه، لأنني أرى أن الغالبية العظمى من الشتامين هم أناس عاديون غير مأجورين، يشتمون المختلفين معهم من الكتاب والسياسيين والفنانين تطوعاً وغضباً وتصوراً أنهم بذلك يدافعون عن الوطن أو الدين أو الجماعة أو الثورة أو الحزب أو أي شيء ينتمون إليه ويدافعون عنه ضد المشتومين الأعداء.

وسط هؤلاء ستجد أناساً تعرفهم، يمكن أن يكونوا في غاية الطيبة والتهذيب والرقة في حياتهم العادية، لكنهم حين يمارسون فعل الشتيمة الإلكترونية يكتسبون شراسة مدهشة، ليس فقط لأن الإنترنت يسهل تخلص الناس من أقنعتها، لكن لأنهم في داخلهم يعرفون أن الكلام مهم، ولذلك هم متأكدون أن شتيمتهم التي يجب أن تكون قاسية ومقذعة ستوجع خصومهم، برغم أن بعض هؤلاء يسفهون دائماً من أهمية الكلام، لكنهم مثلما تفعل السلطة يهتمون بالكلام ويتعاملون مع المتكلمين والكتاب بوصفهم أهدافاً خطيرة يجب أن يتم التعامل معها بحدة وقسوة.

بالطبع لا يعني ذلك أن كل من يتحدث أو يكتب يقول كلاماً مهماً، فهناك من يقولون كلاماً فارغاً ويتعرضون للشتيمة، لأنهم يمثلون لوحات تنشين يمكن أن يفرغ الناس فيها مشاعرهم العدوانية بسهولة ودون أن يتعرضوا لنفس المخاطر التي يمكن أن تصيبهم لو شتموا لواء شرطة أو لواء جيش أو قاضي، وبالتالي على من يتعرض للشتيمة ألا يعيش في الدور ويسارع إلى تصور أنه مهم أو أن كلامه مهم، لأنك يمكن أن تكون كاتباً "هفأ" وتقول كلاماً لا أهمية له، لكنك تتعرض للشتيمة من باب فش الغل وإرضاء غريزة التحفيل، وإذا كنت من الذين يعتقدون أن الشجرة المثمرة هي وحدها التي يتم رميها بالطوب، فأنت في الأغلب لم تزر الأرياف والحواري في حياتك، وإلا لكنت قد عرفت أن الأشجار هدف مجاني لعدوانية البشر والطيور والكلاب الراغبة في فك الزنقة.

أعتقد أنك إذا كنت مهتماً بالكتابة وترغب في الاستمرار فيها، لا بد أن تعمل حسابك على أن الشتيمة جزء من طبيعة المهنة، ولأن الحياة السياسية في بلادنا أصبحت في عداد الموتى بعد أن كانت من قبل في عداد "الكتيانين" والمرضى المزمنين، فلا بد أن تذكر نفسك بأن كتابتك سيتم التعامل معها دائماً بوصفها "فعل سياسي خطير"، ويمكن أن توقعك تحت طائلة التهمة المستجدة "التحريض على قلب نظام الحكم" التي أصبحت الأنظمة المعاصرة تعاملها بنفس معاملة الأنظمة السابقة لتهمة "قلب نظام الحكم"، وفي ظل ذلك سيكون آخر مشاكلك أن يشتمك أحد أو أن يبصق عليك افتراضياً أو واقعياً.

يعني أتصور أنهم لو كانوا قد خيروا المرحوم جمال خاشقجي بين أن يشتمه أهل السعودية والخليج العربي والكرة الأرضية كل يوم ويبصقوا عليه، وبين أن يتم قتله ونشره بالطريقة البشعة التي حدثت له، لكان قد تسامح مع الشتيمة والبصق وفوّض أمره لله في ذلك، وستجد الحال نفسه مع أي كاتب يقضي سنوات طويلة من عمره مرمياً في السجن، يتخانق على الدواء وحقه في مروحة أو مرتبة سرير، حينها لن تفرق معه شتيمة الأم لو كانت اختياراً بديلاً.

لذلك أتصور أن مبالغة البعض في شتيمتي من حين لآخر، يقف وراءها رغبة في تعويض أنني لست هدفاً متاحاً لبطشهم، ولو إلى حين، ولذلك أتعامل مع شتائمهم مهما كانت قاسية، بوصفها جزءاً من طبيعة الحياة في أوطاننا، ولكي نغير هذه الطبيعة أو نحاول تغييرها، لا بد أن نفهم هذه الطبيعة، حتى لو لم نتفهمها، وأعتقد أن ذلك مهم إذا كنا راغبين في استمرار السعي من أجل أن يعيش الناس في أوطاننا، دون أن يعاملوا الحاكم وأسرته ورجال أجهزته بوصفهم أسياداً من المحظور مهاجمتهم أو السخرية منهم أو لعن سنسفيلهم إن لزم الأمر.

أذكر أنني ذات "لحظة فضا" دخلت في مناقشة عبثية مع متابع كان يبعث لي شتائم بانتظام، وبدأت مناقشتنا بأن قمت بتصحيح أخطاء إملائية في شتيمته، وضحكت بشدة حين قام بإعادة إرسال الشتائم بعد تصحيح أخطائها الإملائية، وقلت لنفسي: هذا والله رجل خفيف الدم، لماذا لا أناقشه "وأشوف ميّته إيه"، لكنه رجع ثانية لحالة الغضب، وأطلق نحوي وصلة شتائم جديدة كان فيها أخطاء إملائية أقل، ختمها بقوله: "عمرك ما هتشوف تراب مصر حتى لو مُتّ يا خائن"، فقررت أن أستكمل الحوار معه بوصفه رجلاً عاطفياً يفهم أن الوطن مهم كمدفن أو مقبرة جماعية، فسألته ما إذا كان يعرف طريقة يمكن أن يكون فيها الواحد خائناً لوطنه دون أن يضطر للعمل الشاق كل يوم، لأنني كنت أتخيل أن الخيانة عملية مريحة ولم أكن أتصورها مرهقة بهذا الشكل.

قطع أخونا الوطني نقاشنا بعد أن طال وقال لي غاضباً: "إنت إزاي جبلّة وعديم الإحساس، أنا باشتمك من الصبح وانت بترد ببرود زي ما تكون خنزير"، فقلت له إنني في الحقيقة أفرح بالشتائم خصوصاً حين تكون مقذعة وقبيحة، واقوم بتصويرها "سكرين شوت"، لأن من ضمن مؤهلات ترقيك في سلك الخيانة أن تكون مؤثراً وتثبت أن ما تكتبه يضايق الوطنيين، وحينها فقط ستزيد مكافآتك وحوافزك الشهرية ويمكن أن يتم رفع مرتبك، ويبدو أن أخينا صدق ما قلته لأنه قام بعمل "بلوك" فوري لكيلا يساعدني على زيادة عوائدي من الخيانة.

ليس لدي ما أختم به هذه "التأملاية" سوى أن أتوجه بطلب حار إلى من يفكر في شتيمتي، لا، لن أطلب منه أن يرتقي ويتوقف عن شتائمه، بل سأطلب منه إذا شعر أنه لن يستطيع أن يعيش بدون أن يشتمني، أن يقوم بالارتقاء بشتائمه من الناحية الفنية، ويجتهد في صياغتها، لعلي أستفيد منها مستقبلاً في أي عمل فني أو أدبي، فتعم بذلك الفائدة، ويتقدم مجتمعنا خطوة إلى الأمام، ولو كانت في مجال الشتيمة.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.