البدري فرغلي... أن يصدقك الناس وترى العالم بعيونهم

البدري فرغلي... أن يصدقك الناس وترى العالم بعيونهم

17 فبراير 2021
+ الخط -

لا مبالغة في القول إن البدري فرغلي أشهر برلماني مصري بعد 1952، بما امتلكه من قدرة على الخطابة واستخدام أدوات الرقابة والتشريع، والأهم الصدق في انحيازه لقطاعات شعبية. لم يخن البورسعيدي، أسيوطي الجذور، انتماءه الطبقي، ولم يمتط السياسة للهرب من بساطة حال أو بؤس اجتماعي عرفه منذ النشأة، ولم يحمله حزب أو جهة أو تحالف ليكون عضواً برلمانياً وهو غير مستحق، بل على العكس أضاف الرجل للتنظيم الذي انتمى إليه، وكان راية للدعاية ليس للتجمع في مراحل خفوته ولكن لقيم اليسار في ما يتعلق بالدفاع عن المال العام ومواجهة الفساد والنهب والمطالبة بقيم العدالة الاجتماعية..

ممارسة السياسة بالنسبة للبدري كانت اختيارا من أجل التغيير، ينصهر فيها الطبقي والاجتماعي والوطني، ليست طريقاً للترقي والخلاص الفردي، وإنما تجسيداً لمصالح من ينتمي إليهم، سواء في ما يتعلق بنشاطه النقابي منذ أن كان فتى وحتى وصل للبرلمان بتأييد شعبي مدفوع بحب أهل بورسعيد، وبعد تجربة سياسية اختبر فيها نفسه، عضوية فاعلة في المجلس المحلي لبورسعيد، سبقه نشاط نقابي مثل خلاله صوت العمال، خاصة القطاعات التي تعاني من رقة الحال وهشاشة ظروف العمل.

شغل عضوية البرلمان أربع دورات برلمانية، منها ثلاث متتالية (1990-2005)، والرابعة والأخيرة خلال انتخابات 2011 بعدما حال شرط الحصول على مؤهل دون ترشحه. ترك الدراسة ليلتحق بالعمل بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، طفل عرف الشقاء مبكراً، وكان قادراً على التعبير عنه في ما بعد في كل مراحل حياته. لم يكن غريبا أن يصدقه من يسمعه، حتى من اعتبروه أبو لسان طويل أرادوا قصه أو تكبيله أو محاصرته أحيانا.

ليس مستغرباً أن تكون جنازته حاشدة وشعبية رغم ظروف كورونا، وأن يفرض المحتشدون على من اتخذ قرار إغلاق المسجد الذي أوصى بخروج جنازته منه، أن يفتح وأن يسير خلفه بعض من جمهوره في مشهد مهيب يليق به.

يحكي البدري فرغلي في غير محل عن أول مهمة وطنية وعمره تسع سنوات، كان الطفل صاحب التسع سنوات يجر عربيات الكارو التي تحمل ضحايا وشهداء عدوان 1956 إلى المقابر. بعد عشر سنوات يلتحق بالمقاومة الشعبية بعد هزيمة 1967، وينتمي إلى الاتحاد الاشتراكي الذي ينصرف عنه في ما بعد مدركا التناقض بينه وبين رجال السلطة التي أيدها، بعد عشر سنوات يشارك في تأسيس حزب التجمع. لا تنقطع محاولات حصاره ولا معاقبته سجناً، يخوض معاركه النقابية والسياسية بالتوازي، يرفض أن تنجر مصر في علاقات تطبيع مع إسرائيل، يبعد إلى ميناء سفاجا، يحبه زملاؤه كما أحبه عمال ميناء بورسعيد وأهلها حتى يطالبوه بأن يخطب فيهم بالمسجد فيتحدث عن جرائم إسرائيل.

امتدت شعبية الرجل خارج بورسعيد فكيف ستكون جنازته غير ذلك وهو الذي تغنى بها وخاض ألمها وأحلامها حرباً وسلماً،

 

يمتلك البدري سمات القائد الطبيعي، الشجاعة والإقدام والقدرة على المبادرة، التحريض وقيادة المعارك، وصياغة خطاب مقبول يتناسب مع اللحظة ويتفهمها. الصدق في التوجه والانحياز للناس مقدر وله أسبابه أيضاً. قال البدري مرة: لم أعرف الرفاهية طوال حياتي. عند نجاحه في انتخابات 1990 اشترى حذاء جديدا بدلاً من حذائه البائس، سأله أحد المعارف اشتريت جزمة جديدة، فأدرك أنه سيكون تحت الرقابة. يحكي البدري أنه وقف يخطب في العمال ذات مرة، قالت له أمه "لو عاوز تتكلم مش هتسرق ولو سرقت متتكلمش". بقيت الكلمة في ذهنه وظل يرددها، بسيطاً كما كان، مكتبه بين الناس في مقهى سمارة، يستخدم عجلة في التنقل، حين فقد بصره قال "لن أتسول من الدولة علاجا".

امتدت شعبية الرجل خارج بورسعيد فكيف ستكون جنازته غير ذلك وهو الذي تغنى بها وخاض ألمها وأحلامها حرباً وسلماً، وهو أيضاً أبرز الوجوه السياسية المصرية، يتابعه جمهور متعطش للسياسة ولخطاب يمثله، غاب أو غيب البدري في انتخابات 2005 (قال إن مبارك وعز قررا قطع لسانه)، كانت مصر تمر بمرحلة تغيير على مستوى أشكال الممارسة السياسية وأطرها، وتحولات في بنية السلطة نفسها، بما فيها من الترتيب للتوريث لجمال مبارك. يعرف البدري تماماً ذلك في وقت كان ينكره البعض. كانت مصر تتحضر للثورة، وخطاب البدري كان مضمونه ثورياً، الدفاع عن العاملين بالأجر والتصنيع ومواجهة الفساد، ومعاركه الأخيرة ركزت على استعادة أموال المعاشات وحصولهم على مستحقاتهم عبر تنظيمهم وحشدهم واستخدام التظاهر والتقاضي وكل أشكال الحشد والتعبئة.

حين دعي البدري للحديث في مؤتمر شعبي بمحافظة أسيوط (جنوب مصر)، طوقت أجهزة الأمن منطقة وسط المدينة، هدمت الصوان وصودرت الفراشة، واعتقل صاحبها، لأنه أفلت من تنبيه مباحث الأمن على أصحاب الفراشات بأن لا يخرج من محالهم كرسي واحد لمؤتمر البدري. في ما بعد عقد المؤتمر بمركز ساحل سليم، فحضره جمهور حاشد. هذا في أسيوط التي تشاركت مع غيرها من المحافظات تقديره. العزاء لأسرته وأصدقائه بقدر ما حمل للناس من محبة وانحياز وصدق واضح.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".