عن سلامة كيلة والثورة والانتصار للإنسانية

عن سلامة كيلة والثورة والانتصار للإنسانية

11 مارس 2019
+ الخط -
تدفعنا حالة الزحام وارتباكات الحياة وتدفقات الانشغال المتعددة، عن فرص تأمل علاقتنا بالآخرين، مدى قوتها ومصداقيتها، لا نختبر هذا بشكل فعلي إلا عند حالة الانقطاع، ربما أكثرها واقعية وألماً تلك الوقفات المرتبطة برحيل نتاج الموت، حالة مغايرة عن انقطاع بعد خلاف محتدم أو خلاف عابر مع الوقت يصبح حالة قطيعة..

الموت وحده هو المختبر الأكثر صدقا، ليس فيه عودة أو فرص للمراجعة، ولا احتمالات العودة لمربع الأنسنة، أو لملمة ما نتج من خلاف وسوء تفاهم.

حين يغيب الموت صديق/ صديقة، نصدم ثم نفزع، حسب علاقتنا بالراحلين يكون الأثر، هذا هو الدرس الذي نتعلمه من الرحيل، آخر مختبر في قيمة الصداقة، وبعدها تأتي مرحلة الوفاء أو النسيان.

لم أكتشف قوة علاقتي برفيقنا الراحل سلامة كيلة إلا بعد موته، ولم أشعر أن هذا الرجل قد يغيّبه الموت، أو أن المرض قادر على منازلته وهزيمته، خاصة مع الخبرات والمعايشة لروحه المقاومة، ومع المعرفة بحياته التي بدأت بترحاله من فلسطين دون عودة، وانتهت بالرحيل النهائي في الأردن، وما بينها مراحل من الترحال.. سلامة كيلة متعدد الأسفار والانشغالات والصداقات والإنجازات أيضا.. ما يزيد عن 60 كتابا!



بعد موته بثلاثة أشهر لم أكن أشعر أنه مات، حي صديقنا هنا بين مواقفه، كلماته، وكتبه وحبه لأصدقائه ورفاقه، الذين اكتشفوا كم ترك من مساحات كان يستحقها بجدارة. بعد أن يرحل الأصدقاء تشعر بالوحشة، وتدرك بشكل فعلي مكانة الصديق.

لسنا في عمر واحد، كان يقول لو كنت قررت أن يكون لي ولد كان سيكون في سنك. لكنه اختار أن لا يحمل أحد تبعات حياته، التي بدأت في صفوف المقاومة وانتهت في صفوفها بمواقفه الصلبة، منحازا للشعوب وثوراتها متفائلا بحس ثوري.

كان سلامة يراوح ما بين الأدوار، الصديق والرفيق الموجه، والأب دون سلطوية.. حكى لي العم عيسى كيلة، ما حكاه سلامة بشأني للعائلة قبل الرحيل بأيام، كنت فخورا بما قال، واكتشفت معنى حديثه حين شعرت باليتم بغيابه.

قبل أن يدفن بالأردن بعد أن رفضت سلطات الاحتلال دخول جثمانه إلى فلسطين، كنت أرتب العزاء بالقاهرة مع بعض رفاقه وأصدقائه، كانت القاهرة أولى بيوت العزاء التي تعددت من عمان إلى بيروت وباريس وعنتاب التركية.

بعد العزاء بيوم نشرت الصديقة نداء عودة (بنت خالته) صورة لسلامة قبل اعتقاله في دمشق، شاب أسمر بشارب ونظارة، ونظرة تحد، اندفعت كلمات سلامة إلى الذاكرة، قال لي بعد ترحيله من دمشق وإقامته في القاهرة "عجزت يا عصام"، قلت: "أنت أبو الشباب، بعدين الشعر الأبيض له وقاره يا رفيق"، اندفع في الحديث قبل سجن الأسد الأب: "كان شعري أسود ولوني أسمر وبشنب أيضا مثلك، قبل أن تقرر أن تتحرر منه في قصة الحب إياها".. نظرت للصورة وابتسمت.

بعد شهر ونصف شهر بدأت مع العائلة في تجميع أوراقه، نصوص، قصاصات الصحف، مقالات هنا وهناك، ردود على رسائل ونقاشات وحوارات عديدة، بين الأوراق أجده يحتفظ بأعداد فمن الجريدة كتبت فيها، وأيضا رسوم رسمها ابني علي أثناء زيارته الأسبوعية لـ"جدو سلامة".

مع تتابع الأحداث يحضر سلامة، يدور حوار داخلي، ما الذي كنا سنناقشه معا بعد أن نعد القهوة الفلسطينية التي أشربها أنا بسكر زيادة، بينما هو يقول لي في خليط ما بين اللهجتين الفلسطينية والمصرية: "لسه ما صرت مثقف، عاوز سكر"، أقول نعم، ولا أنتوي!.

سيناريو متخيل...

أثناء إعداد وجبة "المجدرة" التي أحببتها رغم كوننا نحن المصريين "ملوك الكشري" كنا سنتناقش حتما، عن السترات الصفراء في فرنسا، هل الحركة الاجتماعية ستتسع في أوروبا، يجيب بتفاؤل نعم، نحن في "زمن الثورة"..

نتناقش، أقول له الحركات الاجتماعية أصبحت متكررة، مشهدا شبه يومي في العالم، يقول: العالم مأزوم بينما حالات السكون هي الاستثناء "الناس بدها تعيش بكرامة"، يسألني ألم نتفق أن نقابل أصدقاءنا السوادنيين، نريد أن نسمع منهم ماذا يحدث في السودان وما رؤيتهم..

يكمل.. تتذكر كراسة "الانتفاضة"؟ أجيب: نعم رفيق.. يستكمل.. الوضع يحتاج إلى تطوير في أساليب الحراك حتى تحسم الانتفاضة أمرها وتنتصر في أولى خطواتها، تسقط النظام وتبني نظاما جديدا، شعار إسقاط النظام ليس كافيا، يجب أن يكون الشعار "الشعب يريد نظاما جديدا".

ننتقل إلى الجزائر "الانتفاضة المؤجلة انطلقت بأفق ديمقراطي"، يرد نعم والجوانب الاقتصادية والاجتماعية ليست مغيبة، الشعارات السياسية ليست منفصلة عن بؤس نمط حياة الجمهور المأزوم.

في مصر تنكسر حالة الخوف كما يبدو، لكن فرص تبلور حراك جديد تحتاج قوى منظمة، ربما نخصص اليوم التالي الحديث عن فنزويلا، يقول لي صحيح تعليقك على الأحداث كان جيدا، بلور رؤية متكاملة ونتناقش حولها، أوعدك يا رفيق وربما لا أفعل.

بعد ساعات يستأذن ليكتب زاوية الخميس، مقالا لـ"العربي الجديد"، بينما أنشغل في متابعة ما يجري.

صوتي يرتفع مع هتافات الثورة السودانية، أكررها بحماسة وكأني في بري أو عطبرة، أردد مع الأغنية: "عشان بلدي عشان بلدك عشان همي عشان همك".. ينظر لي ويبتسم..

بالمناسبة، قابلت سميح شقير، أنت تحب أغنية يا حيف، وعلى شجر السرو، أيضا، أرد عليه: كلاهما جميل، أتصور أن الانتصار للثورة والحب بينهما خيوط مشتركة "لولا هذا الحب الذي كان فى قلب ماركس لما كان كتب عن الثورة"..

فى الخلفية صوت متظاهرة تهتف: "حكومة الموت تسقط بس .. حكومة القهر تسقط بس .. حكومة الذل تسقط بس .. حكومة العسكر تسقط بس .. تسقط تسقط تسقط بس".

دلالات

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".