حين أخفت أمي ماركس

حين أخفت أمي ماركس

21 مارس 2019
+ الخط -
أغلبنا في مرحلة الشباب، تبرز بينه وبين عائلته التناقضات والاختلافات، الأب والأم وأحياناً الأقارب، حين تكون الأسر ممتدة، خاصة أولئك الذين يعيشون في ظل بناء اجتماعي لم تدهسه المدنية والفردية..

بعد فترة تتأمل تلك الاختلافات، تراجع نفسك، ومع الأيام تلحظ في مواقف عديدة تمر بك، قدر التأثير الذي يتركه فيك محيطك الاجتماعي، وطريقة تربيتك، أهم الفاعلين في بناء شخصيتنا ومكوننا الثقافي بمفهومه العام، وربما جزء من توجهاتنا وقيمنا الفكرية والسياسية.

منذ ما يقارب الأسبوع قبل عيد الأم اتصل أبي صباحاً، أقلق من المكالمات الصباحية أو المكالمات المتأخرة، وغالباً لا أستقبلها إلا من محيط الأسرة، وبهذا تعود الأصدقاء على هذا السلوك..

استقبلت مكالمة أبي، قلت له بعد الكلمات الافتتاحية: خير، قال لي: "مش لازم أكلمك لو في حاجة.. بسأل عليك".. وصل صوت أمي وهي بجواره: "ما انت مكلمه بدري، أكيد هيقلق".. كان أبي يذكرني باقتراب عيد الأم، شكرته وفعلت ما يجب فعله في هذه المناسبات.

للحقيقة أن تأثير أمي كان غير عادي، أتذكرها كلما مر بي ظرف يحتاج لحكمة، وأبحث عن وصيتها والأمثلة والتشابهات التي كانت تطلقها، وفي هذا يتسع المجال للحكي، لكن هناك مواقف لها لا تُنسى، وليست وحسب محل استدعاء بقدر أنها كونت رؤيتي ومنظوري في بعض القضايا..

كانت أمي تحكي أنها وبحكم كونها الأخت الأكبر لأخوتها، كانت تجلس خلف "البدالة"، ولمن لا يعرفها، هي آلة الري العتيقة المكونة من قطع خشبية حلزونية متراصة يحيط بها غطاء من الصاج وبها أنبوب يرفع المياه إلى الأراضي المزروعة.. سمعتها تحكي تلك المواقف لأخوتها سيد ومنصور تحديداً، حين كانوا يحاولون فرض وصاية ذكورية عليها أو يتحدثون بلهجة لا تعجبها، لتذكرهم بأنها كانت تعمل بيديها وليس لذكوريتهم فضلٌ عليها، ولا على عائلة جدي الذي كانت أمي تقوم بإدارة شؤونه تقريباً، ترعى الأرض والضرع وتحمي مصدر رزقهم حين لم تكن لهم وسيلة أخرى غير الأرض التي يمتلكونها، وليس من حقهم التحكم فيها أو فرض وصاياتهم.


ربما التأمل لحياة أمي جعلني أنظر للنساء بشكل مغاير، وأن يكون منظوري للنوع الاجتماعي وأدوار النساء مختلفاً، هذا المنظور منحوت في الوعي نتاج واقع اجتماعي وطبقي وأدوار اجتماعية رأيتها قبل أن أتعرف على مدارس النسوية، أو أسمع رطانات أغلبها كاذب وشكلي، وأيضاً قبل أن أبدأ مبكراً مرحلة البحث والتعرف على الماركسية ثم الانضمام إلى أحد تياراتها في مصر.

وهنا تبدأ حكايات أخرى، منها تجربة الاحتجاز الأولى، ثلاثة أيام في مبنى أمن الدولة بأسيوط قبل أن ألتحق بالجامعة مباشرة، تذكرت أمامي حكاياتها مع أخيها الذي اعتقل ضمن الجماعات الإسلامية فى التسعينيات، وقضى سبع سنوات تُجدد فيها أوامر الاعتقال، تحولت ساحة البيت إلى اللون الأسود..

طفل من العائلة في يد قوات الأمن، قال أبي للضابط: "دا عيل يا باشا"، رد الباشا: "ابنك كبر يا شعبان، متقلقش هيرجعلك تاني"، لكن أمي لم تصدق، ولا نساء العائلة اللاتي تجمعن في البيت، ظننَّ أن واحداً آخر من العائلة يختفي، وسيكررن زيارات السجون، من سجن أسيوط إلى العقرب وغيرها من السجون..

كلهنّ أمهات يحببن أبناءهن وأبناء العائلة، كانت أمي رغم الخوف قوية، تكررت هذه المشاهد بعدها، حين أحببت حباً غير عابر، استمرت تداعياته لفترة طويلة وظلت صورة بطلتها على زجاج مكتبي لسنوات، كانت أمي تراقب هذه القصة باهتمام، على سطح بيتنا وجدتني أبكي، وسألتني: "مالك يا ولدي؟"، لم أجب لكنها عرفت ولا أدري كيف، وقالت لي: "ربنا يكتب اللي فيه الخير"، أنت كبرت يا عصام.. ثم بدأت أحكي الحدوته.

في مرة أخرى حين تكرر مشهد الاحتجاز، في ذات التوقيت، في فجر صباح جديد.. حين عدت، سألت أمي عن أوراق كنت أخبئها تحت المسافة المحدودة لدولاب منخفض، وقفلت المساحة بخشبة عريضة، أجابتني: "أنا دسيت الورق في الفرن، عشان قلت طالما أنت عاوز تخبيه يبقى فيه حاجة"، كانت الأوراق منشورات سرية للحزب الشيوعي المصري فى سنتي الأولى معه والتي انتهت مع سياسات نظام 30 يونيو، وورقة قديمة عن انتفاضة 1977 صادرة عن حزب العمال الشيوعي، أهداها رفيق قديم مما تبقى من كوادر الحزب، وأيضاً مجلة سرية للاشتراكيين الثوريين في مصر.

وفي ذات السياق تكرر حدث آخر، لكنه فارق، حدث وضح موقف أم تدافع عن ابنها بشراسة، كنا نحضر لمؤتمر شعبي ضد الخصخصة سيحضره أحد القيادات الشعبية ذائعة الصيت حينها، ورفضت كل محلات "الفراشة" تأجير "صيوان" للمؤتمر أو كراسٍ، تحملت المسؤولية أمام الرفاق، وطلبت من أحد أقرباء أمي والذي يمتلك محلاً للفراشة، تدبير الأمر، وبالفعل قمنا باستئجار الفراشة، فما كان من الأمن إلا أن يبحث لمن هذه الفراشة، لينتقم منه، وكيف استطعنا تخطي هذا الحاجز، قبض على قريبنا هذا، وعوقب بشدة على فعلته، فما كان منه سوى الانتقام مني أو ربما تم تحريضه على ذلك من قبل أجهزة الأمن، وبالفعل وفي طريق عودتي للبيت قطع علي الطريق بجبن هو وأبناء عمومته وأخذ ثأره، رغم أن من لطمه على خده وأهان كرامته هي أجهزة الأمن، لكن دوافع الثائر لا تعرف العقل، وجبن عبد النبي صاحب الفراشة وقلة حيلته لا يدفعانه إلا للانتقام مني..

عدت للبيت، قميصي ممزق، مهزوماً مضروباً، تجمع أهلي وأفراد من العائلة أمام البيت، كانت أمي تراقب المشهد من الشباك، اشتكى عبد النبي من تعذيب أجهزة الأمن له، واعتبرني السبب، أي كنت ولا بد أن أتربى على يده، ثارت أمي وقالت له: "أنا هعرف ازاي أربيك، أنت اخرتك رصاصة بأقل من تلاته جنيه"..

من يومها وأنا أعتز بدفاع أمي وبدورها متعدد الأوجه وبتأثيرها، وأكره أيضاً عبد النبي وأمثاله وتجاوزات أجهزة الأمن، وأنحاز لقيم العدل والماركسية، وأتبنى منهجاً نسوياً يعتمد على تطوير واقعنا وتحسين أحوال نساء هذا الوطن.. وأقول لهن كل عام وأنتن طيبات وأحرار، وكل من له حبيب ميبعدوش أبداً عنه..
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".