أسرلة فرنسا

أسرلة فرنسا

07 يوليو 2023
+ الخط -

أخبار فرنسا منذ أكثر من أسبوعين لا تسرّ. لا بل إنها لا تسرّ منذ فترة أطول بكثير. لكن الاستياء من حالها يتجدّد في كلّ مرّة يرد اسمها في الصحف، كجزء من أخبار جغرافيا كوكب العنصرية والتراجع الفكري والاقتصادي المتفاقم في عالمنا اليوم. 

أخبار فرنسا لا تسرّ مجدداً. يعتلي اسمها مقروناً بأحداث مؤسفة وموجعة للقلب عناوين نشرات الأخبار المسائية. تفكّر بأصحابك هناك، بمن تحبّهم، بماضيك في تلك البلاد، بحلوّه ومرّه، هارباً من حربٍ أهلية لم تكن هي بنفسها، بريئة من أسبابها. 

تتذكر فرنسا التي تحبّها وأنت تشاهد فرنسا التي تكره على الشاشات، فرنسا المحزنة بتقهقرها المتزايد. تتقوقع فرنسا أكثر فأكثر، وتتجه بخطى حثيثة إلى هاوية العنصرية وخسارة الذات الاستثنائية التي بُنيت بشق النفس وبالكثير من النضالات. هذه الذات التي حاكت غرزاتها وزركشاتها كتحفة من الدانتيل أيدٍ وعقول ومواهب كثيرة، فرنسية وغير فرنسية، تضافرت جميعها لتغزل ما كانت عليه فرنسا في الستينيات والسبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات: وطن مكتسبات اجتماعية وتنوّع ثقافي، مثالاً يحتذى، وحلماً لأبناء الأوطان المستحيلة مثلي. 

تتقوقع فرنسا أكثر فأكثر، وتتجه بخطى حثيثة إلى هاوية العنصرية وخسارة الذات الاستثنائية التي بُنيت بشق النفس وبالكثير من النضالات

اليوم، لا بل منذ عقدين أو أكثر بقليل، بدا أنّ خيوطاً أفلتت من مشهد فرنسا الجميلة في غفلة من أهلها، لتكرّ الغرزات، مدمرة، بسرعة، ذلك الدانتيل الأنيق. سرعة لا تشبه بتاتاً البطء والصبر اللذين حيك بهما. 

أخبار فرنسا لا تسرّ، منذ ما قبل مقتل من تسميه وسائل الإعلام الفرنسية "الفتى ناهل" بيد شرطي، ظنّت مؤسسته أنه يمكن أن تخفي جريمته الواضحة في عصر كاميرات التلفونات النقالة المنتشرة كالهواء، فورطت نفسها ببيان أولي، عادت وتراجعت عنه بعد نشر فيديو يُظهر كيف أنّ الشرطي أعدم حرفياً الفتى القاصر الذي لم يكن يشكل أيّ خطر عليه كما ادّعى بداية. 

لكن ورطة مؤسسة الشرطة إن أمكن وصفها بذلك، كمنت في مكان آخر: إثبات تحيّزها الذي لم يعد بحاجة إلى إثبات، وسيطرة العنصريين القوميين المتطرفين على مفاصلها وقرارها، متشجعين بمجموعة قوانين أقرتها حكومات متوالية، لصالح تصوّر هوية مختلف عن واقع المجتمع الفرنسي المتعدّد الثقافات اليوم، ثقافات بحاجة إلى أن تتصالح في تصوّرها لهوية وطنية جامعة تراعي حساسيات قومية وعرقية ودينية، وليس لأن تتواجه في الشارع كما يحصل اليوم. 

حادثة قتل القاصر نائل المرزوقي (17عاماً) ليست جريمة الشرطة الأولى لهذه السنة، هي الرقم الثالث عشر، والجريمة التالية على ما يبدو لن تتأخر إن استمر الحال على ما هو عليه

أخبار فرنسا لا تسرّ. وهي تتوالى عن دعم "الرأي العام الفرنسي" حسب بعض المواقع اليمينية، لما فعله الشرطي، عبر تضامنها مع جريمته بحجة مخالفة الضحية لقانون السير! تضامن تعدّى الكلمات إلى قيام أحد الناشطين والمستشار السابق في حزب مارين لوبن اليميني المتطرف، جان ميسيها، بجمع تبرعات عبر موقع "غو فاوند مي" لحساب الشرطي المتهم بالقتل العمد، والذي أسف بالمناسبة لما بدر منه، معيداً ما حدث إلى ردّة فعل ميكانيكية. 

ومع ذلك، بدا أنّ الفعل نفسه لم يعد ملكاً لمرتكبه، فقد تخطّت قيمة ما جمعته هذه الحملة المشينة مبلغ المليون دولار حتى الاثنين الماضي حسب "قناة الجزيرة". هذا التجاوب الشعبي ذو المغزى الكبير، أخاف قادة سياسيين دعوا لإقفال هذا الموقع الذي اعتبروه "مكاناً لإذكاء نار الفتنة"، أو وصفوا المبادرة "بمبادرة العار". لا بل إنّ السياسي اليساري، دافيد غيرو، غرّد على تويتر، قائلاً إنّ "الرسالة المفترضة (لهذا العمل) هي اقتل العرب وستصبح من أصحاب الملايين".

حادثة قتل القاصر نائل المرزوقي (17عاماً) ليست جريمة الشرطة الأولى لهذه السنة، هي الرقم الثالث عشر، والجريمة التالية على ما يبدو لن تتأخر إن استمر الحال على ما هو عليه. فبحسب إحدى الصديقات الفرنسيات التي تعمل باحثة في الواقع النقابي الفرنسي واتجاهاته، فإنّ نسبة عالية جداً من رجال الشرطة والأمن في فرنسا، تلامس الثمانين بالمائة، تحمل بطاقات عضوية في نقابات الشرطة والأمن، اليمينية الاتجاه والانتماء. فلقوى الأمن الفرنسية، عكس واقعها في بلاد كثيرة، الحق بالانتماء إلى نقابات مسيّسة من هذا النوع. وتقول مارينا إنّ هذه النقابات قوية جداً، وحين تكون لديها مطالب وتنزل إلى الشارع شأنها شأن بقية النقابات، فإنّ استجابة الحكومات لها تكون سريعة، عكس استجابتها لبقية النقابات. أما السبب؟ فبرأيها، لأنّ الحكومات تحتاج لهؤلاء في ضبطها لبقية الشارع الذي كثرت تظاهراته بسبب من تدهور الأحوال الاقتصادية المتفاقم وعجز الحكومات عن إيجاد الحلول. 

مشروع قانون معاقبة عائلات وأهل مثيري الشغب من القاصرين، إن قُدّم للجمعية الوطنية وأُقرّ، سيكون تطوراً خطيراً باتجاه أسرلة الأمن الفرنسي تشريعياً

لا تتوقف أخبار فرنسا المحزنة، والمذهلة أيضاً! أنا مثلاً التي أعرف فرنسا جيداً، لم أصدق أذناي حين سمعت الخبر. فهناك حدود في عقلك للمدى الذي تستطيع أن تصل إليه الأمور في تقهقرها. 

ما هو الخبر؟ هناك اقتراح قانون قدّمه رئيس مجلس مقاطعة "هوت مارن"، نيكولا لاكروا، وهو أيضاً نائب رئيس لجنة رؤساء البلديات والجمهوريين المنتخبين، يطلب من الحكومة تشريعاً يمكّن الوزارات أن تختار، في حالات معينة، تعليق أو سحب المساعدة الاجتماعية (allocation familiale) لأولياء أمور القصّر بعد إدانتهم فيما يتعلّق بأعمال الشغب. 

يقول لاكروا في مقابلة مع صحيفة "لوباريزيان" في الثالث من يوليو/ تموز الماضي: "لقد صدمت لرؤية كلّ هؤلاء القاصرين في الشوارع طوال الليل والذين يتسبّبون في أعمال الشغب هذه. ماذا يفعل الوالدان؟ علينا أن نقوم بما هو أكثر من إخبار الوالدين بتحمّل مسؤولياتهم". ويضيف "يجب أن نتصرف ونعاقبهم (..) يجب أن يسمح القانون للإدارات بتعليق أو إلغاء المساعدة الاجتماعية للآباء في حالة الإدانة الجنائية للقصر بسبب جرائم تتعلق بأعمال الشغب".

مشروع قانون معاقبة عائلات وأهل مثيري الشغب من القاصرين، إن قُدّم للجمعية الوطنية وأُقرّ، سيكون تطوراً خطيراً باتجاه أسرلة الأمن الفرنسي تشريعياً، خصوصاً بعد صدور القانون الذي ساوى بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية. ولم يبق إلا التهديد بهدم مساكن هؤلاء لكي تصير فرنسا إسرائيل أخرى، يُستبدل اضطهاد الفلسطينيين فيها باضطهاد ذوي الأصول المغاربية، بدلاً من معاملتهم كمواطنين فرنسيين.