من الذي عاد إلى العصر الحجري؟

من الذي عاد إلى العصر الحجري؟

05 ابريل 2024
+ الخط -

تفاقمَ وضعي كثيراً عشيةَ دخول جريمة الإبادة المستمرة في فلسطين شهرها السابع. أعراضٌ تشبه أعراضَ حملٍ بالكراهية بدأت تنتابني. وبالأمس، قبضت على نفسي وأفكار انتقامية عجيبة تُراودني، لا بل تُلّح عليّ. لم تعد لديّ قدرة أو صبر على تحمّل "مهنية" قناة الجزيرة مثلاً، في عرضها فيديو لمجرم الحرب بنيامين نتنياهو، مُتحدثاً إلينا، كما يحصل في أيّ خبرٍ عاديٍ لأيّ شخصيةٍ طبيعية. أُشيح ببصري عن الشاشة وموجة من الغضب تتصاعد في داخلي، كالنار، تلسع روحي وقلبي، لا يخفّف من توّقدها إلّا خفض صوته الكريه لأجل الترجمة العربية بصوت المعلّق. 

ما إن أفتح عينيّ صباحاً حتى أتفقد الأخبار التي تتوالى كالمصائب بالجملة: إسرائيل قتلت ليلةَ أمس فريق مساعدات أجنبياً جاء يعين الغزيين بمواجهةِ مجاعتهم. يعرض الخبر صورَ باسبورات هؤلاء الشهداء، مُلقاة فوق جثثهم مكشوفة الوجه. جوازات سفر بألوانٍ مختلفة: بريطانية، بولندية، أسترالية، كندية، أيرلندية وأميركية، فضلاً عن جثّة المترجم الفلسطيني. يكاد المرء يقول: بالطبع. 

ها هي الفتاة التي كانت تبتسم أمس في فيديو "المطبخ العالمي" خلال تقديم الوجبات في القطاع الجائع، والرجل الأجنبي الطويل الذي كان يقف بجانبها بوجههِ الشاحب المبتسم، جثتان مُسجتان من دون حياة، ملفوفتان بقماشِ كفنٍ أبيض يكاد يكون الزيّ الموّحد لكلِّ من يخاطر بدخولِ غزّة. 

لم يَعدْ الشهداء الغزيون خبراً أوّل، فهذه طبيعة الأخبار: جديد الجرائم أولاً. وبالطبع شهداء الأجانب يتقدّمون الأخبار، بما يعنيه ذلك من أملٍ في تغيّر سياسة بلادهم الداعمة لإسرائيل، بعد قتل الأخيرة لمواطنيها. 

إسرائيل تُسمّمنا، تُعيدنا قروناً إلى الخلف بأنواع شتى من الجرائم التي لم يقم بها إلا همج ما قبل التاريخ

يعلّق نتنياهو من المستشفى، كما يقول الخبر، حيث يتعالج من "فتاق". يقول إنّه يتأسف لقتل الأبرياء من دون قصد. يا لدقته في تمييز الأبرياء. لم يجد إلا ستة أبرياء بين 32916 شهيداً، و75494 مصاباً منذ بدء العدوان الإسرائيلي، وحتى كتابة هذه السطور! 

ترن جملة "نتنياهو في المستشفى يتعالج من فتاق" في أذني كشتيمةٍ موجّهة إليّ شخصياً. أرمق الشاشة بطرفِ عيني كما لو كنت أسترق النظر إلى منظرٍ مُؤذٍ. ألمح وجهه القميء تحت قناعِ الأكسجين، فتغمرني موجة الغضبِ النارية مرّة أخرى. 

إنّه يتعالج إذاً؟ لا من سرطان شرس، ولا من تصلّب لويحي، ولا من شللٍ كاملٍ، ولا من جلطة في الدماغ.. بل من مجرّد فتاق. أنظر إلى السماء بعينينِ مملؤتين بالعتب.

خلال الليل، انسحب جيش المجرمين من مجمع الشفاء الطبي ومحيطه السكني، وذلك بعد أسبوعين من "الإقامة"، حوّلوا خلالها باحاته إلى ميادين إعدام للمرضى ومرافقيهم، ثم ألقوا بجثثِ الشهداء، موثوقة الأيدي خلف ظهورهم، في تلك الساحات. ألقوها مكشوفة تماماً أو في مقابر رفع عتب، دُفن فيها الضحايا تحت طبقةٍ رقيقةٍ من التراب تاركين الكلاب الشاردة الجائعة تفترس ما تستخرجه بسهولةٍ منها.

يقول الخبر إنّهم، أي جيش المجرمين، أكدوا بأنفسهم أنّهم أعدموا مئتي شخص، كانوا في المجمّع أو في محيطه. وأنّهم، اعتقلوا 500 للتحقيق. لم يعد باستطاعتي السماع. مجرّد سماع ذلك يُصيبني بالغثيان. 

هددتنا إسرائيل بإعادة غزّة إلى العصرِ الحجري. لكن، من الذي عاد فعلاً إلى ذلك العصر السحيق الخالي من الحضارة، من القيم، من الأخلاق، من الإنسانية؟ أليست إسرائيل نفسها؟

تعرض قناة الجزيرة مشاهد حصرية حصل عليها مراسلوها من المجمّع المنكوب: يشبه هيكله المحترق والمهدّم، تلك المباني التي تقوم البلدية بتخريبها لهدمها كونها آيلةً إلى السقوط. يهيم أهالي الضحايا بين التلال الصغيرة المتتالية من التراب والرماد والأنقاض، مفتشين عن أثرٍ لحبيبٍ أو قريب. يعود لذاكرتي مشهد مقبرةٍ جنوبية بعد قصف صاروخي إسرائيلي. كانت مقبرة قرية خربة سلم. ما زلت أذكر كيف انتشرت الجماجم والعظام البيضاء المقذوفة بقوة الانفجار وعصفه، مبعثرةً هنا وهناك، حول حفرة بلغ عمقها أكثر من عشرة أمتار أحدثها الصاروخ. كان المشهد رهيباً. ما زلت أذكر المياه التي انبثقت من الأرض في قعرِ الحفرة. أكان ذلك خلال حربها على لبنان عام 2006؟ أم عدوان عام 1996؟ أم عام 1993؟ تكاد ذاكرتي عن إسرائيل تكون مجموعة من صور المجازر والفظائع. 

مهلاً. أقلت تكاد؟ 

يخبرني صديق من فلسطين إنّ الطبيبة التي وصلنا صوتها في تسجيل غاضب/مستغيث من مجمّع الشفاء منذ يومين، قُتلت أمس. أعيد سماع تسجيل صوتها مرّة بعد مرّة. وفي كلّ مرّة كان غضبي يتضاءل لا ليختفي، بل ليتحوّل. يتحجّر. ينتقل من سيولة مشتعلة تسري في جسدي كالنار في الهشيم، إلى برودةٍ جامدة بلون الكراهية المتعفّن والمُعكّر كمياه مستنقع.  

يعتلي مجرم الحرب الشاشة مرّة أخرى. وبدلاً من البحث عن شتيمة تفي بغرض التنفيس عن غضبي، أخذت أحدّق في من يظهرون معه وأفكار "جديدة" تراودني. أتفحص جماهير المحيطين به في المشهد، خاصة من يقف خلفه، قربه. لا أراه هو. فكرة واحدة تُراودني: يا للروعة لو ظهر أحدهم من بين الجموع وأطلق عليه النار. أغمض عينيّ لتذوّق الشعور. رصاصة واحدة، صارمة، صائبة، في الرأس تماماً. 

أقبض على نفسي، وهذه الفكرة الإجرامية (هل هي فعلاً إجرامية؟) تشيع ما يشبه الارتياح في روحي. قال لي عقلي: يا ضحى، اعقلي. نتنياهو ليس إسرائيل، سيأتي غيره، وقتله لن يعوّض جرائمه، ولو اغتيل ألف مرّة، أو سُحل ألف ألف مرّة، لو قُلعت عيناه ألف ألف مرّة، وشُلعت أطرافه بعد ربطها بأحصنةٍ متعاكسة الاتجاهات، ثم لُفَّ بجلدِ حمار ودُلق النفط عليه وأُحرق ألف ألف مرّة كما كان يحصل في القديم الوثني، فإنّ كلّ ذلك لن يعوّض جرائمه، ولن يوقف الإبادة، ولن يمحو إسرائيل.

صحيح ولكن. حين يسود التوحش المحمي بالقوة، وتدوم الإبادة شهوراً ستة أمام أنظار كلّ الكوكب، كيف من الممكن أن نحتمل كلّ هذا الذل لإنسانيتنا دون أن نُصاب بسمِّ الكراهية؟ دون أن نُصاب نحن أيضاً بالتوحش؟ 

إسرائيل تُسمّمنا، تُعيدنا قروناً إلى الخلف بأنواع شتى من الجرائم التي لم يقم بها إلا همج ما قبل التاريخ.

هدّدتنا إسرائيل بإعادة غزّة إلى العصرِ الحجري. لكن، من الذي عاد فعلاً إلى ذلك العصر السحيق الخالي من الحضارة، من القيم، من الأخلاق، من الإنسانية؟ أليست إسرائيل نفسها؟

الأشهر الستة الماضية تجيب ببلاغة عن هذا التساؤل.