عالمٌ يشبه العالم

عالمٌ يشبه العالم

29 مارس 2024
+ الخط -

يقف الرجل العجوز أمام المعبر المقفل. خلفه، تصطف قوافل لا تنتهي من شاحنات مساعدات تفسد لطول وقوفها في شمس ظهيرة الصحراء. أمامه، تتزاحم عشرات الميكروفونات المنتظرة لما سيقوله. هو أرفع مسؤول أممي وصل إلى هنا. هناك لهفة ما تكاد تميزها في إصراره على القدوم إلى هنا بنفسه. شحوب السن والمكوث في المكاتب يكسو وجهه المتهدل. يهب الهواء مختلطاً بالغبار الصحراوي فيتطاير شعره الذي اختطه الشيب، مخففاً من رتابة اعتدناها في صورته الرسمية. 

الزيارة بنفسها تحسب في الدبلوماسية خطوة. يبدو الأمين العام هنا على معبر رفح، بقميصه السبور، وشعرة المتطاير مع نسائم الهواء، أقرب إلى أن يكون جداً حنوناً جاء ليتفقد ما يحصل لبعض جيرانه في الإنسانية. ننتظر ما سيقوله بلهفة من لا يمل من الأمل. فيقول كمن يتحسس بقدمه أولاً أرضاً ملغومة: "منع إسرائيل المساعدات عن شمال غزة أمر غير مقبول"! 

يا للفعالية يا "عمو"! لا يبدو أن الهواء الطلق يغيّر شيئاً في تعابير قلق الأمم المتحدة. 

يبدو تصريح غوتيريس جغرافياً، على الأقل، غير لائق. ففي الناحية الأخرى من الجدار كان الغزاويون شمالاً وجنوباً وفي الوسط يجوعون ويقتلون بأبشع الطرق والأشكال وعلى مدار الساعة وفي توقيت تصريحه. 

يبدو تعبيره "الدبلوماسي"، في الوقت الذي لم يعد هناك من معبّر لغوي أفضل من الشتائم والسباب، مضراً أكثر بكثير من فائدته اليسيرة التي أشاعها قدومه.

جغرافياً كان تصريح الأمين العام غير لائق بتاتاً، لا بمنصبه ولا بجهده ولا بدرجة خطورة الحدث، لكنه على العكس، كان شديد التعبير عن حالة العجز الأممي، ولو أنه توخى غير ذلك. عجز العالم عن النجدة الإنسانية، عن التصرف بشرف وشجاعة كما تفعل جنوب أفريقيا مثلاً، أمام حسابات المصالح المعقدة والخوف من موازين القوى. 

كشفت زيارة غوتيريس إلى المعبر المقفل بإحكام أميركي/ إسرائيلي/مصري، أننا وربما دون أن ندري، كنا نضيّع وقتاً ثميناً بالأمل في نجدة العالم. 

ومع ذلك، لا أدري كيف يبقى ذلك الأمل نابضاً؟ أهو الأمل بالإنسانية؟ ومم يأتي؟ متى رأينا العالم يهبّ كأم حنون، لنجدة المظلومين؟ أم هو اليأس من ترجّي شيء آخر؟ أملٌ "يطلع من ملل" كما تقول أغنية زياد الرحباني؟ 

كانت أنظارنا المتوسلة، منذ شهور، موجهة إلى العالم، وحين نقول العالم، لم نكن نقصد بلداً محدداً أو حكومة بعينها. ولو أنَّ العالم، بمعنى القدرة على لجم إسرائيل، هو فعلياً الغرب، كون عالمنا العربي، محتلاً هو الآخر ولو بشكل أخبث من الاستعمار الاستيطاني الجلف في فلسطين.

وبالتدريج، كنا كلما ارتفع منسوب همجية إسرائيل وتفتقت مخيلتها الشريرة عن طريقة جديدة لإبادة الفلسطينيين وذلهم، نشخص إلى الغرب الذي كان في وعينا أنّه عنوان التحضر، فلا نجد إلا أفراداً هنا وهناك، تحلوا فعلياً بالضمير والإنسانية، يصيحون مثلنا بأعلى أصواتهم مستهولين ما يرونه ويسمعونه، ومثلنا لا يكترث لهم أحد في العالم. 

إسرائيل تعري الرجال، تعري النساء وتغتصبهن، تقتل الحوامل بإطلاق النار على بطونهن، تسرق ذهب النازحات وتحرق ما حملوه معهن من حاجات لتلبية طلبها بالنزوح

فالعالم، فعلياً ليس نحن وليس هؤلاء الأفراد أو الجماعات الصغيرة، بل "هم"، أي الأقوياء بالمال والسلطة ومحتلو دوائر القرار، برجالهم ونسائهم وتمويلهم. هم تكتلات الاقتصاد والسلاح والإعلام، محور عابر للأمم بقوة المصالح المجردة من أي غطاء ديني أو أخلاقي أو قانوني، الباردة برودة المعدن الذي يصنع منه السلاح. عالم احتل موضع القلب منه آلة حاسبة ساخرة من كل أي قانون لا ترفده القوة بالفعالية.

العالم هو هم.

وإليهم، تتنقل أنظارنا كلما ارتفعت حدّة التوحش، راجين على الأقل، نظرة مشمئزة مما يفعله همجيو القرن الحادي والعشرين. كلمة تبل قلوبنا ببعض الأمل بتوقف الإبادة الدائرة على مدار الساعة، على مدار اليوم، على مدار الأسبوع، على مدار الشهر، منذ ستة أشهر، لكننا لا نسمع إلا عبارات محسوبة بدقة الخائف على مصالحه. عبارات مدورة لا تقول شيئاً، وهي بذلك تقول شيئاً آخر. وهو أنّ الإذن معطى للوحش ليكمل ما يفعله.

بايدن يفكر، بايدن يستشير، بايدن يصرح، بايدن يكاد أنّ، بايدن يعصّب، بايدن يغلق الخط بوجه نتنياهو، بوادر خلافات بين بايدن ونتنياهو، الخلاف قد يتعمق، نتنياهو يخرب المفاوضات، يشتري الوقت، الجزائر تقدم اقتراحاً لوقف إطلاق النار، أميركا تشهر الفيتو بحجة أن لديها مشروع قرار آخر، إسرائيل تقتل، تبيد، تقنص، تميت، تقضي على الأخضر واليابس. إسرائيل تعري الرجال، تعري النساء وتغتصبهن، تقتل الحوامل بإطلاق النار على بطونهن، تسرق ذهب النازحات وتحرق ما حملوه معهن من حاجات لتلبية طلبها بالنزوح، ترسل الجميع عراة إلى حيث قالت إنه مكان آمن، وهناك تقتلهم. 

وأخيراً منذ أيام، وعلى خلفية مسرحية بايدن/نتنياهو، والانتخابات الأميركية، تتراجع واشنطن عن إشهار الفيتو. لا للموافقة على مشروع القرار الموزمبيقي لوقف إطلاق النار في فلسطين لا سمح الله، بل لمجرد امتناعٍ متعالٍ متعجرف عن التصويت سمح بإقرار المشروع، الهزيل نصاً والأرجح فعالية.

العالم، بممثليه في مجلس الأمن، يفرح للقرار الذي تفضلت أميركا بعدم عرقلته عقاباً لنتنياهو على تمرده. ها هم يصفقون بحرارة وقد انفرجت أساريرهم عكس تجهّم ممثلة الولايات المتحدة الأميركية في المجلس. 

تنقل الشاشات حول العالم المشهد باحتفاء من تمكن من نصر عظيم، ثم؟ ... تعود إلى "روتين" تغطية جديد المجازر الإسرائيلية، وأخبار عزم نتنياهو اجتياح رفح، حيث كان يقف، في الجهة المقابلة للجدار الممنوع، أمين عام الأمم المتحدة.

عزيزي السيد غوتيريس. على الأرجح أنك جدُّ لطيف. اذهب ولاعب أحفادك، إن كان هذا كل ما يستطيع العالم أن يفعله من أجل إيقاف إبادة العصر المهولة التي بدأت منذ 75 عاماً في فلسطين، تحت أنظاركم، وهو اليوم يكملها في غزة. ولا تدع لنا حتى الأمل. فهكذا سيكون "البحر من أمامنا".. ولا مناص من المقاومة.