يبزغُ الفجرُ دائماً.. حتّى في المنفى

يبزغُ الفجرُ دائماً.. حتّى في المنفى

10 يونيو 2020
فيكتور رودريغيث نونييث (العربي الجديد)
+ الخط -

[شاطئ سانتا ماريا]

لا شعاعَ ضوءٍ يخِرُّ صريعاً مُمَدّداً
على هذا الشاطئِ
مثلَ سرطان بحرٍ تعيسٍ
ليمنَحَهُ طفلٌ صغيرٌ المَغفرةَ

تَحِنُّ إلى الحَجَرِ الذي يَغمِزُ لك
بعدائيّتِهِ الطازجة
والدرّاجةِ الهوائيّةِ المُرصّعةِ بالصَدَفِ
والتي تخمشك بمخالِبَها

الرّمالُ غارقةٌ في صمتِها
وتخرج إيقاعات عِصيُِّ الكلافي claves عن الإيقاع
فيبدو العالم بأكمله عبارة عن آلة جويرو güiro
مرسومةٍ كيفما اتّفق

يقول السُيّاح:
لن تصدّق كم ستتعلَّم
بمجرّد أن تغادر هذه المياه.


■ ■ ■


[Malecón/ رصيف الميناء الخشبي]

الروسيُّ يُشرٍعُ حِرابَ صيدِه
والعطّارةُ تَحلِبُ صمغَ الشجرِ اللامع
لا صوابَ ولا خطأ هنا
لا شيء سوى خطوات راقصة فوق كل هذا الجمال

سيصطاد الروسيُّ سمكَ النهّاش
الذي يهزُّ ذيلَه في الماءِ وزَبَدِهِ
وستتزوّجُ العطّارة ذلك السائح
المسحورُ بثدييها غيرِ المتناسقين

كلُّ ذلك في الأمسية نَفْسِها
عندما قرّرتِ الشّمسُ أن تبقى ساكنةً
والمطرُ حَدَّقَ في وجوهنا مباشرةً

سوف يَتسرّبُ المطرُ بين هذه الأوابد العريقة
وعندما يهبطُ الليلُ
لن يجدَ سوى
خيبةَ أملٍ مالحة.


■ ■ ■


[رحلة 1]

طائرةٌ طائشةٌ
مثلُ رصاصةٍ فضّيةٍ
في فمِ ذئبٍ
والحنينُ سحابةٌ مُدلهمّةٍ ثقيلة

تضّطربُ الرّؤية
على متنِ هذا الفراغ
وجسدُ الطائرة الأبيض الطريّ
أشبهُ بريشةٍ عالقةٍ بِبَشَرَةِ الأُفقِ الليليّ

العنفُ كامنٌ هناكَ
وراءَ الشُّجيراتِ السّماويّةِ المتشابكةِ
على جانبي مسارِ الطيرانِ المستحيل

ومثلُ صاعقةِ القدَرِ
التي تخترقُ أحشاءَ النّهار
يبزغُ الفجرُ دائماً.. حتّى في المنفى.


■ ■ ■


[رحلة 10]

لا فائدةَ من البحثِ بعد اليوم
فقد تحدّدَ الخطأُ
لذا جدّفْ بعيداً عن حُجرة القيادة
ولا تنتظر الخوفَ ليمدُّ لكَ يدَ العون

طِرْ لتلمسَ عَنانَ السّماء
وحلِّقْ فوق المَطبّاتِ الهوائيّة
لا تُصدّق بعد اليوم أنّك في تأهّب دائم
فكلُّ لحظة تعيشُها هي ليلةٌ بيضاءَ كاملة

حلِّقْ بالطائرةِ، بالعائلةِ التي تُقِلّها
وتجوّلْ في أرجاءِ العالمِ السحريّ
فهذا الحبّ لا يُصنع من تلقاءِ ذاتِه

ورغم أنّ المستقبلَ كالماضي
لكنكَ مجرّدُ جَذرٍ خائفٍ
مجردُ رغبةٍ لا أكثر.


■ ■ ■


[وادي نهر أوهايو]

وصلتُ الأُفُقَ
كان صوتُ نورِه الباهرِ
يُخيّمُ على كلّ شيء
ويُنكِّهُ جسدي بالزنجبيل

الأفق ممددٌ هناك
ليستنشقه جيلُ الأُمهاتِ الصّغار حول نهر أوهايو
وليالي الانتخابات في مصانِعِهِ
والقلقُ الذي يُكدَّسُ في مستودعاتِها

البيوتُ في قلبي اليوم
كالمسامير في جسمِ طائرةٍ
تخترقُ بؤبؤَ عينِ الإعصارِ
وتهبطُ
بابتسامةٍ شاحبةٍ
فيغوصُ المعطفُ الشتائيّ في حنينه إليّ.


■ ■ ■


[27 شارع مالارد بوينت]

تدركُ فجأةً وأنتَ في منزلك
أنّه غريبٌ عنك
وأنكَ غريبٌ عنه أيضاً
رغمَ سلاسلِ الحمض النّووي التي تنشُرُها على جميعِ أسطُحِهِ

تُدركُ الآن أنك لن تعودَ إليهِ
حتى بعد أن حملتَ معكَ عدّة سماواتٍ
وبضعة قيعانٍ من البحر

وعلى ضفافِ هذه البحيرةِ المُتخيَّلة
ستنسى لغتكَ
وتسمّي الأشياء
وتَلفِظُ أسماءها بأحرفٍ زائدة

لا حاجة لتتخلّصَ من ظِلِّكَ المُجَعَّد
أو تلكَ النظرة الصفراء على وجهك
فأنت غريبٌ هنا أيضاً.


■ ■ ■


[ميناء 1]

قلبٌ نشازٌ يُغرّدُ خارجَ السّرب
لا تؤمنُ بالنظام الذي يمنحك منزلاً
ونظامُكَ حرَمَكَ من أيّ مأوى
فاسرق ماشيتك الاستوائية التي تريدها

استلق على رأسكَ الشفّاف
في حقلِ ذرة متجمِّد
أمامَ طَبَقَ "المخاريته" الذي يتعالى منه البخار
فلن يطردَكَ أحدٌ أو يطلبَ منكَ البقاء

لم يلاحظْ مغادرتكَ أو عودَتكَ أحدٌ
فالكلّ مشغولٌ بنفسه

لم يهزمكَ الحنينُ بعد
ولكنْ، ألم تُصفِّر مَرَّةً
مُنشداً أن طاحونةَ السُّكَّر قد تهدّمتْ.


■ ■ ■


[ميناء 9]

الملاءةُ مثقوبةٌ
فماذا تفعل بالجزءِ الضائعِ من القماش؟
ولو صاحت كلّ الديكةُ من خلالِها
فلن يَصدرُ أيُّ صوتٍ

لن تَصدُرَ أيّ نأمةٍ
حتى عن الفتاة ذات العينين المنتفختين
واللحمُ الذي مزّقهُ النمر في الحلم
والغربانُ التي سَرقتِ الثلج
والمناظرَ الطبيعية التي تطاولتْ عظامُها

النهار يتصدَّعُ على حافة
أُفقٍ آخر
والليلُ يمتدُّ حتى يغلي البابونج

عُدَّ بمفاصلكَ قرقعاتِ العظام
فذلك القطن المجازيّ قد غَسَلَتْهُ أيدٍ ما
ولم يُكتب عليه شيء.


■ ■ ■


[158 شارع كامباناريو]

عليك أولاً أن تتخلّص من كلّ ما تراه عينيك
فالوطنُ عالقٌ في مخالب ديكِ المدينة
الذي يوقُظُ حركة المرور

اِنحتْ بالمِعْوَلِ
أصابعَ شريرةً في الأجزاء الرطبة
من أرضِ الوطن الصلبة
الأرض التي تبقيها جذور أشجار المانغروف متماسكة

الجذور العطشى لحقيقة الألوان
تمتصُّها كأعمى
يَتَلمَّسُها في أعراف الخيول

يمكن لامرأةٍ ما أن تغدو جزيرة
ولا بد دوماً من طبقة ألوان أخرى
إذا ما تماديتَ في الحلم.


■ ■ ■


[متنزّه باسيو ديل برادو]

بدأ هذا البلد بداية جديدة
كان عليه اختراع طريقة أخرى
للتعامل مع روتينه الكثيف
فحتى موسيقى الرومبا
لا يمكن أن تحرّكَ هؤلاء الخلاسيين الأُسطوريين
الذين ينفثون أنفاسهم الحارّة
وأولئك الصينيين الذين يصطفون في الطابور هناك
يبتسمون على أبواب العدم

بلد الحدّة الإيديولوجية
الذي يتداول عِمْلةً مزدوجة من موسيقى الريغتون
حيث الشيء الوحيد اللائق هو الشّمس

بلد صارم بآثار مُثلَّثة
يَلهثُ على السلالم،
لم يعد هنا ولن تأخذه معك.

* Víctor Rodríguez Núñez أحد أهم الشعراء المعاصرين في كوبا، من مواليد هافانا سنة 1955، وهو مترجم وناقد أدبي وأستاذ جامعي يعيش ويُعلّم حالياً في كنيون كوليدج في ولاية أوهايو الأميركية. صَدَر أول دواوينه في هافانا عام 1979 وله اليوم أكثر من عشرين كتاباً. وقد عاش في نيكاراغوا وكولومبيا كما تعكس أعماله أواصر قوية مع الثقافة والأدب الإسباني إجمالاً. حاز العديد من الجوائز في كوبا والمكسيك وإسبانيا وسواها، كما تُرجم شعره إلى العديد من اللغات. القصائد المختارة هنا من مجموعته Inverse المنشورة عام 2016.  

** ترجمة:عماد الأحمد

 

المساهمون