من كتاب "الطريق إلى قونية"

من كتاب "الطريق إلى قونية"

10 مايو 2016
الفنان الفرنسي أوديلون رودون (Getty)
+ الخط -
"كم أحببنا من الأمكنة دون أن نتمكن من الإقامة فيها. وكم أقمنا في أماكن لا تعني لنا شيئًا. لكأن انحياز الكائن إلى هواه أمر لا يسر البشر، ولا تحبّذه الطبيعة. امش! أقول لنفسي وأنا على حافة الهواء. 
أمشي حتى "مركز مولانا الثقافي"، حيث الدراويش الدوّارة يبدأون طيرانهم في الريح. أراهم يلاحقون عتمة الليل، مثل فوانيس منزوعة الفتائل، ومع ذلك، تضيء. وسأقصّ ذلك على أبي كما كان يقص عليَّ الحكايات.

فجأة أرى القمر. قمر صحرائي القديم الذي كان أبي يُسبِّح تحت نوره الرب. وأقف في مكاني. أقف بعناد مثل جَمَلنا الأصهب المقروح وقد أبْهظَتْ ظهره الخُمول. أريد أن أشبع منه بعد أن افتقَدْتُهُ، طويلًا، في "باريس".

هذا هو القمر! أصير أخاطب نفسي. القمر الذي كنتُ ألعب تخت ضوئه حافي القدمين لعبة "الشظاظ". ألعب في رمله الليلي عاريًا إلا من هِدْمٍ قديم. ألعب وهم كلهم حولي، ولا أحد، الآن، منهم سواه: قمر قونية الحزين.

أقف في دوحة القمر طويلًا. أتطلع في عتمة الليل إلى بوادي الجزيرة المرسومة على جبهته. أريدها أن تجيء للتوّ. أريده أن يمنحني "الذُّهْبَة" الإشراقية إلى هناك. ويحضُرُني وجه أبي وهو يردد: "خطوة بخطوة، وخطوة بآلاف الخطوات". أحاول أن أعرف الطريق السريع إلى القلب، إلى قلب الكون المليء بالمثابرات. وأستدير بهدوء لأرى الطلّ الذي صرت أحس لمسته الباردة على وجهي. ولا أعثر إلا على الندى: ندى الليل الغامر في البادية.

أحسني أريد أن أرتجف، ولا يصل الهَمَيان إلى أعماقي. كانت عبارة "مولانا جلال الدين" المرسومة على مدخل المركز هي التي ملأت عينيَّ: "ابْدُ كما أنتَ، أو كُنْ كما تبدو".
                              ******************* 

"أفكّر صامتًا، دون أن أتحرك من مكاني: لم تدُكَّ حوافر الخيل العربية أصقاع العالَم لأنها كانت مُحمَّلة بالفرسان، فقط. بل لأنها كانت تحمل معها "الكتاب". وأي شيء آخر يمكن أن يَخطُرَ لك على البال، وأنت ترى المنمنمات القرآنية المعجزة التي ابتدعها المشغوفون، معروضة أمام ناظريك في متحف "مولانا".

أفكّرُ: أفرح كثيرًا عندما أتذكّرُ أهلي، وأنساهم، تمامًا، عندما أكون في العالم. وبين الذكرى والنسيان يتأرجح قدر الكائن مثل ثمرة على وشك السقوط. وهنا، في "قونية"، عاصمة السهوب الأناضولية، تذكَّرتُهُم كثيرًا. وأسعدَتْني الذكرى، والإقامة في المكان".

المكان الذي لا يُسعدُ الكائن يبعده عن روحه، ويدمّر جوهر الوجود لديه.

أحسّ بهذا في كل مرة أستوطن فيها أرضًا حتى ولو بشكل عابر. الأمكنة مثل الكائنات (أصرّ على إعادة هذه المقولة التي أعتبرها أساسية): ثمة مكان يجعلك "غريبًا"، وآخر يجعلك "أريبًا". أو بشكل أكثر حميمية، قريبًا من القلب، من قلبك أنت بالذات.

ولأننا في كل الأحوال "غرباء"، حتى في "بلداننا الأولى"، فإن المقصود بالغربة، هنا، ليس المعنى الجغرافي المألوف، وإنما: الغربة بمعنى "توليد البلادة العاطفية، والابتذال الفكري لدى الكائن". فهما يجعلانه غريبًا حتى عن ذاته. لماذا؟ لأنهما (البلادة والابتذال) يقتلان الرغبة في الحياة، ويَلجُمان أي شعور جميل يمكن أن يحس به الكائن، أو يمارسه، تجاه مَنْ، تقذف به الظروف إزاءه.

الأمكنة قد تُولّد الموتَ، إذن، وقد تهب الحياة."

المساهمون