قمرُ البلاد الواطئة

قمرُ البلاد الواطئة

05 ابريل 2016
الفنان الأميركي أليس كنت ستودارد (Getty)
+ الخط -
كانت لميا ترتاح إلى طريقتي في السرد وتصغي إليَّ باهتمام وشغف. ما ساعدني على تخطّي ميلي الطبيعي إلى الصمت، وما لديَّ من وهمٍ أحمله في نفسي منذ الصِغَر، ولم يفارقني حقّاً حتى اليوم، بأن لا حاجة للكلام لإفهام الآخر ما أريد، وللتعبير عن مشاعري ورغباتي، وبأن التواصل يتمّ عبر النظر والإحساس، لا أكثر. لكن ما دفعني إلى إخبارها بكل ذلك، كان رغبتي العميقة في مؤاساتها، وسعيي الدائم إلى إبعادها، قدر المستطاع، عن شبح الأيام المأسوية الطويلة التي عاشتها، متأرجحة بين الحياة والموت، وأخذها، في مرحلة النقاهة والتعافي، إلى أجواء بعيدة، وعوالم مختلفة، تنأى بها عمّا هي فيه، خصوصاً أنّها أخفت أمرها عن الجميع، وكنت أنا رفيق آلامها الوحيد.

لم أكن أخبرُها فقط بتلك القصص التي عشتها وعرفتها، والتي لم أكن لأسرّ بها لأحد. كنت أتلو عليها أيضاً، من حينٍ لآخر، مقاطع من "يومياتي الداخلية"، ما لم أعتده من قبل. قرأتُ لها ذات مساء ما يأتي:
"قمرُ البلاد الواطئة كبيرٌ أصفر، في السماء المموّهة بضبابٍ شفّاف، في المدى الماثلة أشجاره صفوفاً / سماءُ البلاد الواطئة قمرٌ أصفر / أنا لم أرَ الشتاء لأرى المطرَ هاطلاً على السهول، فاصلاً صفوف الأشجار عن القمر الكبير الأصفر، واصلاً صفوف الأشجار بالقمر الكبير الأصفر / أنا لستُ إله الليل ولا أنا ملك المطر. فلماذا تنظرُ إليَّ الأشجار، من وراء هاماتها، بهذا العتاب الكبير؟/ لماذا تريدُ أن تضمّني إليها؟ / قمرُ البلاد الواطئة كبيرٌ أصفر، فوق البحيرة الليليّة التي تضمّه / الذاكرةُ والتاريخ حقلٌ مُغلق، والعِبارة ليست للانتصار، في المعركة الخاسرة سلفاً، ضدّ رامي السهام الأعمى / عبثاً معرفة الملاك الكُليّ المعرفة، وعبثاً رأفة الملاك الكُليّ الرأفة /".
توقّفتْ لميا كثيراً عند هذا النّص، ثم سألتْني أن أوضح لها زمانه ومكانه. فاجأني طلبها إذ لم أكن أتوقّعه. لكني أخفيتُ شعوري وأجبتها: "تعلمين، إنه تعبير عن لحظة، ممّا أسمّيه "اللحظات المتوهّجة"، التي تتكوّن منها يومياتي الداخلية. وبالطبع، لا ينطوي النص على كل ما تحمله "اللحظة المتوهّجة"، إذ يستحيل ذلك في حدود اللغة والتعبير، بل على جزءٍ ما منها". 

لم تكتفِ بإجابتي، بل رغبتْ في أن أوضح لها كيف برزتْ تلك اللحظة، وفي أي مسار من المشاهدات والأحداث أدركتها.
شعرتُ حينئذٍ أنّه بات لزاماً عليَّ إخبارها بوقائع تلك الرحلة غير المألوفة إلى الريف الهولندي، التي قمت بها قبل سنين، حيث تعّرفتُ إلى طبيعته الخلاّبة، بسهولها عميقة الاخضرار، المزدانة بحقول الزهور، وطواحين الهواء، ومجاري المياه، وأبقارها الهانئة الآمنة، المستمدّة من كتب الطفولة ورسومها. لكنّي عاينتُ خلال تلك الرحلة أيضاً، أشكالاً من الحياة، وأنماطاً من السلوك، لم أكن أعهدها من قبل.
قلتُ لها في البداية : "تحلّ تلك اللحظات المضاءة على نحو مفاجئ، وفي أمكنة وأوقات جد مختلفة، كما تمرّ بسرعةٍ خاطفة داخل الذات، بحيث لا إمكان لالتقاطها في كلّ مرةّ، بل أحياناً فقط". ثم أضفتُ: "نادراً ما كنتُ أستقل السيارة في رحلاتي في الأرجاء الأوروبية. فانا أحبّ القطار حبّاً جمّاً، إذ أسرّح النظر، عبر بلوّر نافذته، في المشاهد المنسابة بلا انقطاع، فأنتقل إليها وتنتقل إليَّ، وتصيبني بمزيج من الحلم والسحر، فتنفتح ذاكرتي على غاربها، وأغوص بعيداً في خفايا العوالم التي تلفّني. 

                                      ******

لكن في الرحلة التي قمت بها أواخر ذلك الشتاء، من مدينة السين إلى قرية متوارية في ريف أمستردام، كنت أقود السيارة وحيداً. كانت هي رحلتي الأولى إلى تلك البلاد، التي لم أكن أعرفها، ولم يَصدُفْ أن عدتُ بعد ذلك إليها.

قبل شهور منها، خلال لقاء في مقهى "وردة المساء" في حي سان جيرمين، تعرّفتُ إلى صبيتين هولنديتين في مطلع العشرين من العمر؛ ماريا وتالا. كانتا على قدر لافت من الحسن والمعرفة، وكنتُ أكبرمنهما ببضع سنين. وقد نشأتْ بيني وبين ماريا بداية علاقة، أو هكذا خُيّل إليَّ. وبعد مراسلات متواصلة، دعتني إلى زيارتها، فحزمت أمري ذات ظهيرة ووجهتي الريف الهولندي. كان عليَّ اجتياز شمال فرنسا، ثم بلجيكا، وصولاً إلى "البلاد الواطئة". لم يكن من دليلٍ لي سوى خريطة كبيرة تبعتها، إذ لم يسبق لي آنذاك أن وطئت تلك الأنحاء.
بعد اجتيازي الشمال الفرنسي وتوغّلي في أراضي بلجيكا، وقد بدأ ينحسر النهار، أردتُ تحديد مكاني بدقة على الخريطة. فأدركتُ أني سلكتُ الطريق الخطأ. كان من حسن حظي أن توقّفت، إذ وجدتُ نفسي على بعد دقيقتين فقط من الحدود الألمانية، التي لم أكن أحمل تأشيرة لعبورها، في زمن كان يطغى فيه على الألمان هاجس "الإرهاب الشرق أوسطي". قفلتُ عائداً في الاتجاه المعاكس. مررتُ في طريقي على بروكسيل، حيث حدثتْ لي مصادفة أخرى، من المصادفات الغريبة التي أعتدتها. فلحرصي على عدم إضاعة الطريق، رغبتُ في سؤال أحدهم عن الوجهة التي عليَّ اتباعها. توقّفت في أحد الشوارع. وكم فوجئتُ حين ناداني رجلٌ باسْمي، وهرع إليَّ مرحّباً. كان هو الشخص الوحيد الذي يمكن أن يعرفني، كونه من مسقط رأسي، من بين ملايين الناس الذين يقيمون ويعبرون في هذه المدينة، وليس فيها سواه. وحين وصلتُ إلى محيط أمستردام، كان قد استتب الظلام، واهتديت بصعوبة، في نهاية المطاف، إلى الدسكرة الصغيرة التي أقصدها، والتي لم تكن على الخريطة.

بعد لقائي ماريا، وجدت نفسي في عالمٍ لم أكن أتوقعه قطّ. كانت ماريا وتالا تقيمان معاً، وكانتا متحابتين. وكان لتالا طفل في الخامسة يقيم معهما. وقبالة بيتهما الصغير، كان والد تالا، الأستاذ الجامعي الخمسيني، يسكن منزلاً أنيقاً، مع شاب وسيم، في عمر ابنته، يحبّه. وقد تعرّفتُ أيضاً إلى زوج تالا، آسيوي الملامح، الذي كان يزور الجماعة، وتربطه بهم علاقة وثيقة. وكم كان عليَّ إخفاء دهشتي وإحراجي، حين دعوني، في اليوم التالي، إلى لقاء مع دائرة واسعة من اصدقائهم، يتوسطها رجل نحيل، معقوف الشاربين، معه ما يشبه النارجيلة الصغيرة، لتعاطي حشيشة الكيف، ما بدا بالأمر المعهود لديهم. ولم يفتهم إبلاغي بأنها من"النوع الجيّد" وتحمل اسم بلادي. فاعتذرتُ بخجل ولطف عن الحضور. وعلى الرغم من غرابة المكان وطرق عيشه، بالنسبة إليَّ، فقد تجوّلت في الطبيعة مع الصبيتين، وزرت معهما أمستردام، ومشيتُ طويلاً، وحدي، فوق جسورها وحول أقنيتها، وقفلتُ عائداً في اليوم الثالث. إضافة إليه، كانت المرّة الأولى التي أجد فيها نفسي في بلاد لا أعرف لغتها. لكني شعرت أن أهل هولندا يتميّزون عن شعوب الشمال الأوروبي، بما يشبه حرارة أهل المتوسط.

                                        ******

كانت لميا تتابع ما أسرده بكثير من الاهتمام. لكن ما أن سكَتُّ حتى بادرتني: "وأين هي اللحظة المتوهجة في ذلك كله؟". أجبتُها : "كانت ثمة لحظة متوهّجة، هي جوهرة تلك الرحلة". ثم أضفتُ : "بعد اجتيازي الحدود البلجيكية، وتوغّلي ليلاً في الأراضي الهولندية، وقع نظري فجأةً على مستنقع كبير بين الأشجار العالية. توقفت ونزلت. كانت ثمة سكينة تامّةٌ وعتمةٌ وصقيع تلفّ المكان، كأنه خارج الزمان. وكان في السماء المنخفضة، وداخل المستنقع، معاً، قمرٌ أصفر اللون، بدرٌ كامل، بالغ الاتساع، لم أرَ مثله من قبل. حينئذٍ، على حين غرّة، وبما يشبه الومض الخاطف، ملأتني، من أقصاي إلى أقصاي، تلك اللحظة".

دلالات

المساهمون