- يتناول مفهوم الغبار كرمز للزوال والنسيان، معبراً عن فكرة الفناء والتلاشي التي تواجه كل ما هو مادي ومحسوس، ويصور الغبار كمدينة تطفو في مجرة.
- يُعالج موضوع النار كرمز للشغف والحياة الداخلية، مظهراً النار الداخلية كقوة محركة تنافش شعرها وتضج في ضلوع الفرد، مشيرةً إلى الرغبة في الوجود والتأثير.
قديمًا، بالأمس أو قبل قليل
لكلِّ مولودٍ في هذه اللحظةِ
نُكتةٌ يُضحِكُه بها الملاكُ الذي هَيَّأَ سريره،
لكلِّ مولودٍ حجارته التي تنتحرُ في أظفره
وثيابه الملطَّخةِ بالثارات وشتائم الغرباء وبَصَمات العائلة.
لكلِّ صارخٍ لأوَّلِ مرَّةٍ في الوجود هذه اللحظة
دَغْلُهُ الذي يَلوكه راضيًا وعلى شفتيه ضحكةٌ باهتة،
له عسله المغشوش ونحلته المريضة،
حروبهُ الغزيرة
وسفرهُ الشحيح
وعزلتهُ باكيًا في السرِّ بلا سبب.
هكذا قالوا قديمًا، بالأمس أو قبل قليل:
سيولدُ في كلِّ لحظةٍ عليٌّ،
وينهضُ آخرُ من مهدهِ ليموت.
■■■
غبار
لا يُباعُ هذا الغبارُ ولا يُشترى
لا يُحفظُ في زُجاجةٍ ولا يمحي بمكنسةٍ من خوص.
هذا الغبارُ مدينةٌ تطفو في مجرَّةٍ تنهبها الأجرامُ العاتية
هذا الغبار الطوّاف حول الهمسةِ والصيحةِ والإشارة
دربٌ تتعثَّرُ فيه حياةٌ وينزلقُ فيه موتٌ وتذوبُ فيه ظهيرةٌ ومغرب
وهذا الغبارُ المضيءُ،
بيتٌ وعلى عتبته غيمةٌ مكسورةٌ
وفي غرفةٍ داخله، صَحوٌ مُقطَّع الأعضاء
وهذا أنا
لا أمل لي في كتابة هذه القصيدة
وحبري غُبار.
■■■
نارُك يا صاحبي
نارُك عالية
ومياهُ الأرضِ قطرةُ عرقٍ على جبينك الحار.
ليسَ من دُخانٍ ولا من حريق
ليسَ من شَررٍ ولا من رماد
نارُكَ يا صاحبي تركضُ في عظامك نافشةً شَعرَها
نارُكَ تضجُّ في ضلوعكَ البالية
نارُكَ تتسلَّقُ رجفةَ شفاهكَ وتحترقُ في عيونك.
من أين لكَ كلَّ هذا الوَلَه الذي يحيا في شرودكَ بين المدنِ
وينتفضُ في رقدتكَ تحتَ الأشجار؟
من أين لكَ كلَّ هذه الرغبة في السيلان على الوجود
والجري إلى حيثُ ما مدَّت يدٌ للمجاهل البعيدة؟
أهذهِ نارُك أم جوقةُ دراويشَ يحملون الفوانيس
أهذا أنت الذي في ابتسامتكَ تلويحةٌ للفناء
أهذهِ فيما بعد
بقايا نارك المُطفأة!
■■■
في صمت الثلاثاء
تهشَّمتَ بقطرةِ ماءٍ،
وكنتَ الحَجرَ الذي يوزِّعُ صلابتهُ على الجيران.
تناثرتَ بلا عاصفة،
وكنتَ ما يصل إلى أصقاع الوحدةِ
ويثير في عينيها شبهةَ البكاء.
كثيرًا ما أردناكَ عودةَ الغائبِ بعد ضياعهِ في الرِّوايات
وكثيرًا ما تخيَّلنا صوتكَ يحرثُ صمتَ الثلاثاء
ويبذرُ فيه اجتماع الأحبّة
ولكنَّك كنت هذا المفقود الكثير
هذا الذي نملكه اسمًا فقط
وليسَ من دليلٍ على ذلك.
تهشَّمت وتناثرت
ولا بأس، إنَّنا ضحاياك.
■■■
على النَّهر والشمسِ والرّيح
أعترفُ على النَّهر الذي ظلَّ يجري
غيرَ شاعرٍ بتعثُّري فوقكِ يا رمال،
على الشمسِ لا تعرفني وليسَ سمرة وجهي من نارها،
على الريح مشحوذة بِغُربةِ المغيب وتجرح،
وها أنا أبتلع المسافاتَ،
لا وجهةَ لي غير مَرأى الجِمالِ
وبعض السَّرابِ
وقطعان أشباحِ البساتين البعيدة.
أعترفُ أنَّ كلَّ ما ملكت من هذه الأرض
صار الآن حفنةَ صحراءٍ في نعالي.
■■■
باقةٌ شكَّلها الموت
كُلُّها اجتمعتْ في قبضةٍ واحدة
مِعولٌ ليسَ من هَدّامٍ لَمْ يَترُكْ بصماتِهِ عليه
مِثقابٌ حَفَرَ في كُلِّ العِظامِ تَخريجةً للآفات المُجاورة
وسلسلةٌ من حديدٍ أعدّوه للقيامةِ
لكن جاءوا به خلسة من جلّاديها،
كُلُّها الآنَ فوقَ هذا الجسد اليابسِ مثلَ رغيف على السطح
الجسد الذي تتآمر عليه الديدانُ البَشريّةِ
وتَنْهَبه بين غَفلةٍ وأُخرى غِربانُ السلاطينِ وأفراخها.
كُلُّها اجتمعت في قبضةٍ واحدة
باقةً صغيرةً شكَّلها الموتُ بيديه
وأظنّه الآن يقدِّمها لي
ولكنَّني لا أتفاجأ، ولا أرتعد،
إنَّني رغيفُ السَّطح،
أتفتَّتُ من تلقاء نفسي.
■■■
مدينةٌ من الرُّخام/ إزميلٌ من الورق
تركوا لكَ الإزميلَ كي تنقش على الرُّخام اسمك
وهذا اللون الرديء من سخام البلاد، كي تلوِّن حروفه،
هكذا ستكون لكَ شاهدةٌ بلا قبر
وقبركَ في مكانٍ ليس يعرفه أحد،
فلمَ نقشت عليه قصائدكَ، وخطَّطت بلادًا وتذاكرَ ووجوهَ نساء؟
لمَ شردت، ورأيتَ في شرودكَ أطيافكَ مسافرةً تُجرجرُ حقائبها
وتقطفُ من أشجار العالمِ تينها وعنبها؟
لمَ نقشتَ هذهِ الثمار، ولا عشبٌ تحت لسانكَ سوى العوسج!
حسنًا، هذه مدينةٌ من الرُّخام
وهذا إزميلٌ من الورق
انحتْ منها زنزانةً تسعُ الدنيا التي في جوارحك
اكتُبْ على بابِها نشيدَكَ الذي أنشدتهُ هناك
ونعودُ إليكَ بعدَ ألف عام.
* شاعر من العراق