مصر بين انقلابين

مصر بين انقلابين

26 مارس 2018

توكيلات للسيسي في مقر الهيئة الوطنية للانتخابات (24/1/2018/فرانس برس)

+ الخط -
تمر مصر بمرحلة عدم استقرار من نمط جديد، قد تكون الأخطر خلال السنوات السبع الماضية. بدأت عندما أدرك الرئيس عبد الفتاح السيسي، الخريف الماضي، أن التراجع اليومي المتسارع في شعبيته لم يعد ينحصر بالطبقتين الدنيا والوسطى والمثقفين والمعارضة السياسية العلمانية والإسلامية فحسب، بل بدأ يمتد إلى داخل القواعد الاجتماعية لنظامه، بل داخل الجيش أيضا. يحصي السيسي، بتوتر شديد، الأيام القليلة الباقية حتى موعد الانتخابات الرئاسية الهزلية المحسومة نتيجتها لصالحه في نهاية مارس/ آذار الجاري، آملا أن تعيد إليه راحة بال ما قبل صدمة الخريف، ليبدأ بعدها فترة ثانية مريحة من حكمه، وليعدل الدستور، بحيث يمكنه أن يصير رئيسا مدى الحياة. لكن المؤشرات تدل على أن من المشكوك فيه أن يستطيع استكمال مدته الثانية في الحكم.

يبدو الطريق القانوني الشكلي نحو "الانتخابات" ممهّدا للسيسي، لكن الطريق نحو استقرار الحكم له يبدو أبعد منالا من أي لحظة سابقة منذ انقلابه العسكري، في 3 يوليو/تموز 2013، على حكومة الإخوان المسلمين والانتفاضة الشعبية ضدها، ليستأثر حينذاك للجيش، ثم لنفسه، بالسلطة المطلقة. خلال السنوات الخمس الماضية، قاد السيسي عملية قمع شرسة غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث، شملت ارتكاب مذابح دموية ضد مئات المدنيين المسالمين، وسجن عشرات الألوف من النشطاء السياسيين، واختفاء المئات قسريا، وتعذيب مئات آخرين، بعضهم حتى الموت، وعشرات من ضحايا الاغتيال أو القتل خارج نطاق القانون. لكن الخريف الماضي شهد أهم تحول نوعي منذ خمس سنوات، بانضمام دوائر من داخل النخبة العسكرية الحاكمة إلى ساحة معارضته التي كانت تقتصر قبل الخريف على الإسلاميين والليبراليين. هذا هو الخطر المباشر الذي يواجه السيسي، في اليوم التالي لانتخاباته التعيسة.
عندما أدرك السيسي، في الخريف، أن المعارضة من داخل نخبة الحكم ستدفع مرشحاً منها ينافسه في الانتخابات الرئاسية، أوعز إلى البرلمان الذي كان قد شكله، بمعاونة الأجهزة الأمنية، أن يبادر إلى تعديل الدستور، بحيث يجنّبه المسار الانتخابي، بمد الفترة الرئاسية عامين إضافيين. لكن وزير الدفاع الذي تضمن له إحدى مواد الدستور الحالي البقاء في منصبه حتى عام 2022 على الأقل، خشي أن يؤدي فتح الباب لتعديل الدستور إلى العصف أيضا بهذه الضمانة الدستورية لمنصبه. وفقا لأحد المصادر، فإنه طلب من السيسي أن يسحب "صبيانه" في البرلمان طلب فتح المداولة حول تعديل الدستور.
لم يشكل تزوير الانتخابات في مواجهة المعارضة يوما مشكلة في مصر، لكن المسألة تختلف عندما يكون المنافس الرئيسي من داخل النخبة الحاكمة ذاتها. يقول مصدر مطلع إنه قد جرى استطلاع رأي بشكل غير رسمي داخل الدوائر الأمنية التي تدير دائما من خلف الستار المشهد الانتخابي في مصر. وكانت النتيجة غير سارّة للسيسي، فقد خلصت إلى أنها ستقف على الحياد، ولن تتدخل لصالح مرشح بعينه لنظام الحكم على حساب مرشح آخر من القاعدة نفسها. لذا قرّر السيسي أن يجد وسيلة أخرى غير تعديل الدستور، لكي يتجنب المسار الانتخابي، من دون أن يلغيه.
خلال شهري ديسمبر/ كانون الأول ويناير/ كانون الثاني الماضيين، قاد السيسي عملية انقلاب عنيف على المسار الانتخابي، من أجل إقصاء أكثر منافسيه خطرا عليه الواحد تلو الآخر. كما عزل بالتوازي المشتبه في عدم ولائهم الكامل له شخصيا من بين كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين، أو ممن قد يدعمون أحد هؤلاء المنافسين.
بمساعدة حكومة دولة الإمارات، جرى اختطاف رئيس الوزراء الأسبق والقائد الأسبق للقوات الجوية، الفريق أحمد شفيق، ونقله إلى القاهرة من أبوظبي (حيث كان يقيم) بعد إعلانه اعتزام ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية، واعتزامه السفر في اليوم نفسه إلى باريس لبدء جولة انتخابية في أوساط الجاليات المصرية في أوروبا وأميركا. في مصر جرى احتجازه في فندق، ومورست عليه، وعلى أسرته من خلاله، ضغوط وتهديدات عنيفة، حتى اضطر إلى إعلان تراجعه عن الترشح. عندما أعلن لاحقا الرئيس الأسبق لأركان القوات المسلحة، الفريق سامي عنان، الترشح، اختطفته قوة عسكرية من سيارته في الطريق العام، وأودع زنزانة في سجن حربي، وخضع لتحقيقٍ من محقق عسكري، وفرض حظر نشر على تطورات التحقيقات معه، بما في ذلك على نشر القرارات المتكرّرة بتجديد حبسه. عندما حاول نائبه في الحملة الانتخابية، المستشار هشام جنينة، الرئيس السابق لجهاز الدولة المركزي للمحاسبات، التقدّم بطعن قضائي ضد استبعاد عنان من الترشح، جرى اعتداء جسيم على حياته في الطريق العام أيضا، بعد فشل محاولة اختطافه بالقوة في سيارة سوداء لا تحمل أرقاماً. ثم جرى القبض عليه، بعد أن وصف إعلاميا ما جرى معه بأنه كان محاولة لاغتياله. أما العقيد في القوات المسلحة، أحمد قنصوة، فقد ألقي القبض عليه، فور إعلانه اعتزام الترشح لرئاسة الجمهورية، وخضع
لمحاكمة عسكرية مبتسرة عاقبته بالسجن ست سنوات. خلال الفترة نفسها، أطاح السيسي أيضا، بشكل مفاجئ ومهين، اثنين من شاغلي أبرز المناصب العسكرية والأمنية في نظام حكمه، وفرض على الأول الإقامة الجبرية في منزله، بينما احتجز الثاني في سجن حربي. الفريق محمود حجازي رئيس أركان حرب القوات المسلحة، واللواء خالد فوزي مدير المخابرات العامة.
في هذه الأجواء العاصفة، اضطر المحامي الشاب خالد علي، المرشح الوحيد الباقي، إلى الانسحاب، بعد أن تحولت الانتخابات إلى مهزلةٍ غير مأمونة العواقب. وللأسباب نفسها، تراجع محمد أنور السادات في بيان للرأي العام عن ترشيح نفسه، تجنبا لتحول الانتخابات إلى فضيحة استفتاء على مرشح وحيد. التقط السيسي أحد أتباعه ليجري تسجيله مرشحا قبل إغلاق باب الترشيح بدقائق، ثم حصل المرشح "البراشوتي" موسى مصطفى موسى، في زمن قياسي، على اعتماد حكومي لشهادته الدراسية، الحاصل عليها منذ 37 عاما، والمطعون عليها قضائيا، ليستكمل بذلك المصوغات الورقية اللازمة لاعتماد ترشيحه.
لم يكن ما جرى خلال الشهور الثلاثة الماضية مجرد منازلة شخصية، بل سياسية داخل النخبة الحاكمة على منصب الرئيس، فشفيق وعنان شخصيتان سياسيتان وعسكريتان مرموقتان، قدما نقدا صريحا وحادا لسياسات السيسي. كما قدّم عنان مشروعا ينطوي على مفاهيم سياسية تشكل نقيضا لسياساته وممارساته. الأكثر أهمية أن عنان أعد مشروعه، بعد مشاورات واسعة شاركت فيها، للمرة الأولى، شخصيات مدنية ليبرالية معروفة، إلى جانب قيادات عسكرية سابقة وحالية، شملت رئيس أركان أسبق وقادة سابقين لجيوش وأعضاء سابقين وحاليين في المجلس العسكري الأعلى، كما أنه أبقى أبواب الحوار مفتوحة أمام الإسلاميين. وهي صيغة سياسية تشكل تحديا مباشرا لمعادلات السيسي المنغلقة على العسكريين، وأقرب إلى ما دعوت إليه منذ نحو عامين.
أدى القبض على عنان إلى تصاعد التململ داخل الجيش، فتلاه القبض على 23 ضابطا من أنصاره، لتستقبل بذلك سجون السيسي ضيوفا من نمط جديد، لم تكن لتعرفهم، لولا عاصفة الخريف، فضلا عن أسرى إقامة جبرية من نمط جديد أيضا، كشفيق وحجازي. يجد هذا التململ الجديد داخل الجيش جذورا تلتقي بالغضب الشعبي الذي امتد، حينذاك، إلى دوائر عليا في الجيش والمخابرات من تسليم جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية. انعكس عدم رضى هذه الدوائر في مجالين؛ أحدهما التعاون، من خلف الكواليس، مع محامين تحدّوا قرار السيسي حينذاك، وحصلوا لاحقا على حكم قضائي لغير صالحه. والثاني هو التسريب المتكرّر لوسائل إعلام أجنبية لاتصالات مسجلة تضر بشكل جسيم بمكانة السيسي وبجهاز المخابرات العسكرية الداعم له بشكل مطلق.
من ناحية أخرى، تساهم المعلومات المتداولة في وسائل الإعلام غير المصرية عن اعتزام السيسي تقديم تنازلات جديدة عن التراب الوطني في سيناء، في إطار ما تعرف بصفقة القرن، في جعل جذوة هذا التململ داخل الجيش أكثر توهجا، خصوصا أن السيسي لم ينفها، كما لم يفصح عما عناه بترحيبه المعلن على مدخل البيت الأبيض منذ نحو عام بهذه "الصفقة".
تعتبر مواقف عنان المعلنة نقطة التقاء لروافد هذا التململ. ولذا أدى القبض عليه إلى توسيع نطاق هذا التململ في أوساط الجيش. الأمر الذي أدى إلى إصدار منشور داخلي يحظر المناقشات السياسية بين العسكريين في أعقاب القبض عليه، على الرغم من أن المناقشات السياسية في المنشآت العسكرية محظورة أصلا بنص القانون. ثم جرى توظيف الحملة العسكرية في سيناء التي تم شنها بعد القبض عليه، لمنح مشروعية أدبية لهذا الحظر. ولكن وفقا لمصادر مطلعة، يضطر القادة العسكريون، على الرغم من أنفهم، إلى إنفاق وقت طويل للرد على تساؤلات سياسية لا تتوقف من الضباط والجنود. يتغذّى هذا التململ برافد آخر يبدو منفصلا، وهو الفشل الممتد للسيسي في مكافحة الإرهاب، على الرغم من الإسناد العسكري المباشر وغير المحدود الذي تقدمه له إسرائيل، خصوصا أن شفيق وعنان استخدما تعبير "الخيانة" لتفسير الفشل أمام إحدى الهجمات الإرهابية.
كما يؤدي استمرار هذا الفشل إلى إضعاف هيبة السيسي العسكرية في عيون المصريين والجيش. في وقت تتضاعف فيه قدرات التنظيمات الإرهابية على الاستفادة من النقمة المتزايدة على السيسي بين بدو سيناء، ومن إغلاق المجال السياسي المدني في عموم البلاد، ومن معاناة عشرات الألوف من المعتقلين السياسيين وأسرهم، بالتوازي مع تمكّن هذه التنظيمات من تجنيد ضباط جيش من القوات الخاصة، وضباط شرطة مدربين على مكافحة الإرهاب لقيادة هجماتها داخل المدن وفي الصحراء. تحالف السيسي مع إسرائيل في سياق مكافحة الإرهاب في سيناء، هو نقطة توتر لها خصوصيتها، وهو أحد دوافع اللواء خالد فوزي لدعم ترشح عنان للرئاسة، ومن ثم قادت الاثنين إلى السجن.

يُخشى أنه إذا كان إغلاق السيسي بالعنف طريق التغيير السياسي يشكل تزكيةً بطريق غير مباشر للمدنيين بانتهاج طرق العنف السياسي، فإنه يشكل بالنسبة للعسكريين تزكيةً لطريق الانقلاب العسكري. إن 65 عاما من الحكم العسكري لمصر هي تاريخ من الصراعات الحادة على السلطة من داخل المؤسسة العسكرية والأمنية (محمد نجيب/ جمال عبد الناصر، عبد الحكيم عامر/ عبد الناصر، أنور السادات/ وزيري الدفاع والداخلية ومدير المخابرات، حسني مبارك/ وزيري الدفاع عبد الحليم أبو غزالة ثم حسين طنطاوي)، دفعت خلاله مصر ثمنا باهظا من استقرارها ورفاهيتها، ومن كفاءة مؤسساتها العسكرية والأمنية. غير أن ثمة انكماشا متسارعا في شعبية السيسي، وتوتر علاقته بالجيش والأجهزة الأمنية، ونزوعه المتزايد، في المقابل، إلى الاعتماد على روابط العلاقات الشخصية والأسرية تضيف مصادر أعمق لهذا القلق. فبعد عدة سنوات من التمرّد الصامت داخل جهاز المخابرات العامة، جرى خلالها إبعاد نحو مائتين من أبرز قياداتها، لم يجد السيسي من يثق فيه من قيادات المخابرات العامة، وهو أهم جهاز استخباري في مصر، ليحل محل اللواء فوزي في إدارته، لذا قام بتعيين مدير مكتبه اللواء عباس كامل مكانه، الذي قام لاحقا بعملية تطهير واسعة النطاق، أقال خلالها عشراتٍ آخرين من المسؤولين من الصف الأول في الجهاز، بناء على قائمةٍ أعدها محمود السيسي، نجل رئيس الجمهورية الذي يتولى مسؤولية الأمن الداخلي في المخابرات العامة. في الوقت الذي صار فيه النجل الثاني للسيسي، والضابط في الجيش أيضا، الرجل الأول فعليا في جهاز الرقابة الإدارية، وهو الجهاز الذي يفحص ملفات المرشحين للمناصب العليا في الدولة، بمن فيهم الوزراء.
من موقعه مديراً للمخابرات العسكرية، استطاع عبد الفتاح السيسي في العام 2010 إقناع وزير الدفاع حينذاك، المشير حسين طنطاوي، أن يستعد لتحريك الجيش لقطع الطريق على توريث الحكم المرجح حينذاك من الرئيس الأسبق، حسني مبارك، إلى نجله جمال مبارك. وفي يناير/كانون الثاني 2011، حانت الفرصة، عندما انتفض المصريون ضد حكم مبارك، فاستغل المجلس العسكري هذه الفرصة للاستئثار بالحكم لنفسه. حينذاك، كتبتُ أن المجلس العسكري ربما لم يكن ضد التوريث من حيث المبدأ، لكنه ضد التوريث من خارج المؤسسة العسكرية. فهل سيقبل المجلس العسكري الذي أعاد السيسي تشكيله توريثا عائليا من نمط آخر، طالما أن الوريث يرتدي الزي العسكري؟ تثير هذه التطورات سؤالا عسيرا إضافيا عن أي أفقٍ لاستقرار مصر، الذي توهم حلفاؤها الدوليون في بروكسل وواشنطن أن تواطؤهم المشين على مذابح السيسي يكفي، بحد ذاته، لتأمين استقرارها واستقرار ما بقي من العالم العربي.
334516FD-AFF4-46AA-B13A-7B89B3F9EB48
334516FD-AFF4-46AA-B13A-7B89B3F9EB48
بهي الدين حسن

كاتب وباحث حقوقي مصري، مدير ومؤسس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، و له مؤلفات حول الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي.

بهي الدين حسن