متعة التعدّد في تونس

05 أكتوبر 2014

ساحة سوق المدينة في العاصمة تونس (3سبتمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

إلى عهدٍ قريب، كان المشهد محنّطاً، وكانت الصورة مكرورة، وكانت الأصوات متشابهة، والحياة كانت رتيبة جدّاً. كانت الأحادية علامة مميّزة لجمهورية الخوف. فعلى مدى عقود، كان يحكم البلاد جنرال واحد وحزب واحد. وعلى مدى سنين، كان صوته العسكري يقرع الآذان صباح مساء، ويهزّ إليه القلوب والألسنة، ريبةً أو اشمئزازاً أو حمداً أو تمجيداً. وعلى مدى سنين، لم يتغيّر مقدّم النشرة الإخبارية الذي تعوّد عبارات المدح والإطراء، فهو لا يملّها، وهي لا تملّه. وعلى مدى سنين عديدة، لم يتغيّر مدير الابتدائية، ولا ناظر الثانوية، ولا عميد الكلية، ولم يتغيّر محافظ المدينة، ولا عمدة القرية، ومناطق الظل ووجوه الفقر لم تتغيّر، أيضاً، فقط ازدادت بؤساً على بؤس. وإذا نبست ببنت شفة، وقلت، بينك وبين صفوة أصحابك، إن الزمن رديء، والوضع مملّ، تعالت من حولك الأصوات، وقيل لك إنك في عهد التغيير الذي لا تغيير بعده، وإنك تأتي إثماً عظيماً بما تقول، وإن الاستقرار نعمة، والأمن رحمة، والرضى بالواقع كنز، وإن كل مسؤول ثروة، ومعين خبرة، ولا سبيل إلى تغييره، وإنْ عَلِقت به شبهات المحسوبية، أو الرشوة، أو استغلال النفوذ أو التعذيب.

والصحف الصفراء لم تتغيّر، بل ظلّت تتناسل كالفطر، وتبرع في حرفةٍ واحدةٍ، اسمها التشنيع بكل معارض، أو شبه معارض. وعلى الرغم من بؤس الأحادية الغالب، كنّا نغتنم مجالس العلم، لنحاور أساتذتنا، ونسائلهم في أمور شتى، هي من الممنوعات التي نستبيحها في حصة الدرس، وكان أستاذ العربية عندنا طموحاً، مستنيراً، لا يترك ساعةً إلا حدّثنا عن ثقافة الاختلاف عند جاك دريدا، وعن المجتمع المدني عند عزمي بشارة، وعن العقل العربي عند الجابري، وغيرهم... فكنا نتمتع بما يقول، وكنا نهفو لحضور مادته. وأذكر، ذات مرة، بينما كنا ننعم بالحوار معه، دخل علينا مدير الثانوية على عهد زين العابدين بن علي، ليلقي على مسامعنا خطبة عصماء، أفسدت علينا متعة الجدل، كانت خطبة في فضائل السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1987 ومعجزاته. فكان يقول إن "التحوّل المبارك" جاء يوم السابع لحكمةٍ إلهيةٍ وبهداية ربّانية، فعدد السماوات العلى سبع، وعدد عجائب الدنيا سبع، وعدد دورات الطواف بالكعبة سبع. لذلك، كان السابع من نوفمبر مباركاً، وسيبقى إلى يوم الدين مباركاً، محميّاً من كيد الكائدين. وقتها، كان الضيم يعتريني، وكان الغبن "يمضغني" وبقية زملائي. انتهت الخطبة، وغادر المدير، وعدنا نسأل أستاذنا عن جدوى الاستبلاه في مجتمع أكثر سكانه من الشباب والمثقفين. عندها، همهم أستاذنا ولم يصرّح.

أما اليوم، فقد ولّى عهد الهمهمة، وعصر الخوف، والوصاية على الرأي، وأصبح بإمكان كل مواطن أن يشارك في الشأن العام، وأن يعبّر عن رأيه في تمام الحرية. فقد فتحت الثورة الباب لثقافة التنوّع، والرأي الآخر، وغدا النقد البيني الأفقي بين الحاكم والمحكوم سلوكاً يومياً، بل أمسى النقد سمةً واسمةً للمشهد السياسي وللفضاء الإعلامي، وللواقع الفكري في البلاد. ويكفي أن تلتفت إلى الانتخابات التشريعية، فتجد آلاف المرشحين إليها، وتنظر إلى الانتخابات الرئاسية، فتجد عشرات المتسابقين إلى كرسي قرطاج. وبرامج المتنافسين متنوّعة، ومقترحاتهم لتجاوز المرحلة الانتقالية متعددة، والمواطن سيّد نفسه، يملك قراره، ويختار مَن يحكمه، ويمارس متعة التعدّد، فيقارن بين الآراء المختلفة، ويختار نمط العيش الذي يريد، فلا حرج عليه في ملبسه، ولا في مأكله، ولا في مذهبه، ولا في معتقده، ولا في أيديولوجيته، ما دام يحترم مبادئ التعايش مع الآخر، ولا يهدّد السلم الاجتماعي، ويقرّ بحريات الآخرين وحقوقهم.

من الموضوعي الإقرار، الآن وهنا، بأن النمطيّة تلاشت، وأن الأحادية تراجعت، وأن ثقافة الاختلاف غدت سيارةً داخل الاجتماع التونسي، فتعدّدت الأحزاب، ومنابر الإعلام، ومجالس التفكير، وغدا النقد متعة، تشاهدها وتحياها في نفسك، وفي علاقتك بالآخرين، حتى أنه في وسعك أن تصلّي في الصباح، وأن تكتب قصيدة رومانسية في المساء، وتدوّن مقالة عند الظهر في قدح الوزير أو نقد الرئيس.

إنها بوادر الديمقراطية، يا صديقي، مِراسها صعب، لكن ممارستها متعة، والحفاظ عليها واجب، بل فريضة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.