حصيلة برلمان الموالاة في تونس

25 مايو 2024

(نجيب بلخوجة)

+ الخط -

مرّت سنة، وأزيد، على تركيز برلمان جديد في تونس، أنتجته منظومة 25 يوليو (2021) بقيادة الرئيس قيس سعيّد، الذي حلّ المجلس النيابي المُنتخب السابق، وألغى دستور 2014، ووضع دستوراً جديداً بُنِيَ على نقض الحكم البرلماني وتأسيس نظام رئاسي مطلق. كما عدّل القانون الانتخابي على طريقته، واستبدل الاقتراع على القائمات بنظام الاقتراع على الأفراد، وأمر بتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في دورتين (2023/ 2022)، قاطعها جلّ الأحزاب المُعارِضة الوازنة (حركة النهضة، الحزب الدستوري الحرّ، التيّار الديمقراطي، حزب العمّال...)، وترشّح للتسابق على الفوز بها طيفٌ كبيرٌ من غير المُتحزّبين، وكذا، مُرشّحو أحزاب صغيرة موالية للنظام الحاكم (التيّار الشعبي، الوطنيون الديمقراطيون، حركة الشعب، حركة 25 يوليو، حركة تونس إلى الأمام...)، ولم تتجاوز نسبة مشاركة الناخبين في الانتخابات المذكورة حدود 11.4%، وأفضت إلى صعود وجوه برلمانية معظمها جديدة، وَعَدَتْ، رغم محدودية صلاحياتها وحاضنتها الشعبية، التونسيين بغدٍ أفضل. وبعد عام من ممارسة المجلس النيابي الجديد أشغاله، التي انطلقت بتاريخ 13 مارس/ آذار 2023، يحقّ للدّارس أن يقف عند مدى نجاعة أدائه التشريعي ودوره الرقابي، ومدى استجابته لانتظارات التونسيين.

يتّسم البرلمان الجديد بسِمة التجانس، من جهة ولاء أعضائه للرئيس قيس سعيّد، وتسليمهم بشرعية مسار 25 يوليو (2021) ومُخرجاته. ويغلب عليه اللون الواحد، على خلاف الغرف النيابية بعد الثورة، التي تميّزت بتعدّديةٍ حزبيّةٍ ظاهرة، آثرت التداول والنقاش بشأن مشاريع القوانين وقضايا الشأن العام، رغم ما تخلّلها من خلافات أيديولوجية حادّة. وتكوّنت من كتلٍ برلمانية مؤيّدة لرئيس الجمهورية، وأخرى معارضة له. فيما يبدو البرلمان الجديد منسجماً عموماً مع المنظومة الرئاسية والحكومية السائدة. وقد عقد، منذ تركيزه في الـ 13 من مارس/ آذار من العام 2023، ما لا يقلّ عن 76 جلسة عامّة، وعشرات الاجتماعات داخل اللجان التمثيلية القارّة. وبحسب عمل إحصائي مفصّل، نشره موقع الكتيبة، فإنّ نسبة حضور النوّاب في 44 جلسة عامة تقدَّر بـ 91%، وهو حضور مُكثّف ومُستقرّ. غير أنّ هذين الاستقرار والحضور شبه الدائم لأغلبيّة النوّاب لا يعنيان كثافة منجزهم التشريعي. فخلال سنة كاملة عُرِضَ 83 مشروعَ قانونٍ على المجلس النيابي لم يُصادَق سوى على 36 منها. وبحسب منظمة "أنا يقظ"، فإنّ 59% من مشاريع القوانين المعروضة على البرلمان اقترحها رئيس الجمهورية، فيما تُقدّر مقترحات النوّاب بـ 41% من مجموع مشاريع القوانين المقترحة على المجلس النيابي. وكلّ مشاريع القوانين، التي حظيت بتصديق مجلس نوّاب الشعب عليها، وردت بمبادرة من رئاسة الجمهورية، فيما ظلّت 25 مبادرة تشريعية تقدّم بها نوّاب على هامش اهتمامات البرلمان، ولم تنظر اللّجان النيابية سوى في أربعة مشاريع منها، ولم يُحَل أيّ مشروع قانون اقترحه النوّاب إلى الجلسة العامّة، باستثناء مشروع تجريم التطبيع مع إسرائيل، الذي اقترحته كتلة الخطّ الوطني السيادي، وتمّ التصديق على فصلين منه فحسب، وعُلّق النقاش بشأنه بسبب تحفّظات كلّ من رئيس مجلس النوّاب ورئيس الجمهورية، بحسب تقارير متواترة.

واللافت أنّ مكتب المجلس النيابي أرجأ النظر في ستّ مبادرات تشريعية أو رفض إحالتها على اللجان المتخصّصة. والحال أنّها موقّعة من أربعين نائباً على الأقلّ. ومن بين تلك المبادرات، واحدة تتعلّق بإحداث المحكمة الدستورية، التي يُفترَض أن تلعب دوراً مُهمّاً في فضّ مسائل النزاع على الصلاحيات، وضمان شفافية المسار الانتخابي، وتأمين التوازن بيْن السلطات، وفرض رقابة على أدائها. ومبادرة أخرى تتعلّق بتعديل المرسوم الرئاسي عدد 54، الذي فرض قيوداً صارمةً على حرّية التعبير، وأفضى اعتماده إلى إيداع عددٍ معتبرٍ من السياسيين، والمدوّنين، والإعلاميين، في أقبية السجون، على خلفية معارضتهم سياسات المنظومة الحاكمة، بحسب تقارير منظّمات حقوقية. ويُرجّح مراقبون أنّ عدم تمرير مكتب المجلس المبادرتيْن المذكورتيْن، مردّه إلى مهادنة رئيس البرلمان، إبراهيم بودربالة، السلطةَ التنفيذية، وميله إلى تزكية التوجّهات الرئاسية والحكومية، بدلاً من الاعتراض عليها. وأدّى تهميش دور النواب في سَنّ القوانين وتعديلها، في مقابل القبول بكلّ المقترحات التشريعية الرئاسية، باستثناء مبادرة تتعلّق بإحداث صندوق التنمية القطري، إلى مركزة سلطة التشريع بيد رئيس الجمهورية.

الناظر في محامل التشاريع المصادق عليها، يتبيّن أنّ جلّها يتعلّق بتمرير اتفاقيات قروض وهبات وبروتوكولات تعاون مع دول شقيقة، وتمّت المصادقة عليها بطريقة آلية وسريعة

والناظر في محامل التشاريع المصادق عليها، يتبيّن أنّ جلّها يتعلّق بتمرير اتفاقيات قروض وهبات وبروتوكولات تعاون مع دول شقيقة. وصودق عليها بطريقة آلية وسريعة، ولم تخضع لتداول واسع بين النوّاب باعتبارها صادرة عن رئيس الجمهورية، وتتكوّن من فصل يتيم أو اثنين، وتتعلّق بتأمين موارد مالية خارجية لسدّ عجز الموازنة العامّة. كما صدّق النواب الجدد على القانون عدد 22 لسنة 2024، المتّصل بإقرار البطاقة البيومتريّة بديلاً عن بطاقة التعريف الوطنية. كما جرى تعديل القانون المُتعلّق بجواز السّفر ووثائق السّفر، وإقرار جواز السفر البيومتري، وهي تعديلات مهمّة، طال انتظارها، وتساهم عملياً في رقمنة الإدارة، وتوفير خدمات القُرب لعموم المواطنين. كما أُقرّ القانون المُتعلّق بالموافقة على انضمام تونس إلى اتفاقيّة مجلس أوروبا للجريمة الإلكترونيّة، المعتمدة في بودابست في 23 نوفمبر 2001 (القانون عدد 9 في 6 فبراير/ شباط 2024). وهو تصديقٌ على أهمّيته يتعارض مع محتوى المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المؤرّخ في 13 سبتمبر/ أيلول 2022 الذي تضمّن عقوباتٍ زجريةً قاسية، تنتهك الحريات العامّة والخاصّة، وشابتْه عدة إخلالات، خصوصاً ما تعلق بضبابية صياغته اللغوية، وافتقاره لمبدأ التناسب بين الجريمة والعقاب.

وبخصوص التشريعات ذات الخلفية الاقتصادية والاجتماعية، صادق المجلس النيابي على تسعة قوانين فقط، خمسة منها تتعلّق باتفاقيات هبات وقروض، وعلى اتفاقية الضمان الاجتماعي بين تونس وكيبيك، وأقرّ الحق في الشغل من خلال المصادقة على فصل مهمّ في قانون ميزانية 2024 (القانون عدد 13 لسنة 2023) المُتعلّق بتسوية الوضعية المهنية لعمّال الحظائر. وهي حصيلة تشريعية ضعيفة لا محالة، لا ترقى إلى سَنّ متْنٍ قانونيٍ يتحرّى تحقيق التنمية الشاملة، وتطوير الوضع المعيشي لعموم المواطنين، وتحسين قدرتهم الشرائية. أمّا على الصعيد البيئي، فأُصدرت ثمانية قوانين، تعلّقت بالتطهير ودعم قطاع الحبوب، وتنظيم التجارة الدولية بأصناف الحيوانات البرية، وإحالة التصرّف في النفايات إلى الجماعات المحلّية والتجمّعات البلدية بالتعاون مع مؤسّسات عمومية أو خاصة. ومع أهمّية هذه التشريعات في المجال البيئي، فإنّها تبقى دون المأمول، خصوصاً أنّه لم تُقَرّ، بعدُ، مجلّتا المياه والبيئة. ومن ثمّ، فإنّ الجهد التشريعي للمجلس النيابي الجديد ضعيف كمّاً وكيْفاً، وذلك في ظلّ اكتفاء النوّاب بالمصادقة على مشاريع قوانين رئاسية وحكومية، وعجزهم عن الإمساك بزمام المبادرة التشريعية، وتمرير قوانين وازنة مثل تجريم التطبيع، وتنصيب محكمة دستورية، وتعديل المرسوم عدد 54 أو إلغائه.

تطلّع طيْف معتبر من التونسيين إلى أن يُحدث البرلمان الجديد ثورة تشريعية. لكنّه لم يفعل. بل آثر أن يقوم بدور وظيفي، ثانوي، وأن يظلّ ظلاّ للسلطة التنفيذية وتابعاً لها

أمّا بشأن الأداء الرقابي للمجلس النيابي، خلال السنة الأولى من أعماله، فقد وجّه نوابٌ، بحسب ما ورد في الموقع الرسمي للبرلمان التونسي، 748 سؤالاً كتابياً إلى أعضاء الحكومة، من بينها 24 سؤالاً لم يتلقَّ أصحابها، بعدُ، إجابات من الوزارات المعنيّة، رغم مُضيّ أشهر من تاريخ توجيهها. وجلّ الأسئلة الموجّهة إلى الفريق الحكومي تعلّق بطلب النفاذ إلى معلومة أو المطالبة بتحسين البنية التحتية أو التبليغ عن شُبهات فساد. ولم يعقد البرلمان سوى جلستي حوارٍ، فقط، مع كلّ من وزير الشباب والرياضة ووزيرة التجهيز والإسكان، في جلستين عامّتين خلال شهر يوليو/ تمّوز 2023. فيما وجّه النوّاب دعوة رسمية إلى رئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن إلى التحاور معها بشأن معضلة الهجرة غير النظامية من تونس وإليها. لكنّها لم تستجب لتلك الدعوة، كما لم يبادر المجلس النيابي إلى إعادة النظر في 122 مرسوماً من المراسيم الرئاسية التي صدرت خلال مرحلة إدارة البلاد بالتدابير الاستثنائية (18 شهراً)، باستثناء مرسوم "الصلح الجزائي وتوظيف عائداته"، الذي بادر رئيس الجمهوريّة إلى تعديله وعرضه في صيغة مشروعِ قانونٍ فصادق عليه البرلمان بأغلبية معزّزة، ودلّ ذلك على قصور في الأداء الرقابي للمجلس النيابي، بل على عطالة برلمانية غير مُعلَنة، وتبعية مطلقة للسلطة التنفيذية، بحسب مراقبين.

على صعيد آخر، اختار البرلمان الجديد العمل بعيداً من أضواء السلطة الرابعة، فمنع وسائل الإعلام الخاصة والأجنبية من تغطية جلسته الافتتاحية، ورفض حضور الإعلاميين مداولات اللجان النيابية. وهي سابقة، لم تعرفْها المجالس النيابية التونسية بعد الثورة. وفي ذلك حجبٌ للمعلومة، وإهدارٌ لمبدأ الشفافية، وتأمين عزلة البرلمان على كيْف ما.

ختاماً، تطلّع طيْف معتبر من التونسيين إلى أن يُحدث البرلمان الجديد ثورة تشريعية. لكنّه لم يفعل. بل آثر أن يقوم بدور وظيفي، ثانوي، وأن يظلّ ظلاّ للسلطة التنفيذية وتابعاً لها. كما تشوّق الناس إلى أن يحوّل النوّاب وعودهم الوردية خلال الحملة الانتخابية واقعاً مُعاشاً. لكنّهم لم يفعلوا. وأدّى ذلك، عملياً، إلى تعميق الفجوة بين برلمان الموالاة وأكثر المواطنين.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.