لآلئ بحر العرب

لآلئ بحر العرب

19 مارس 2017
+ الخط -
لا تتجاوز المسافة بين مدينتي جوادر الباكستانية وتشابهار الإيرانية مائة كيلومتر، وهما تُعتبران منافسين طموحين ناشئين. لعقود، اعتمدت المدينتان الساحليتان الهادئتان على الصيد البحري وتجارة الشحن البحري. ولم تستفد باكستان أبداً من إمكانات بلوشستان إلا أخيرا.

تقول الأسطورة إن رئيس باكستان الأسبق، ذو الفقار علي بوتو، منح الكرملين موافقته لبناء قاعدة بحرية سوفييتية في ميناء جوادر، ولم يوقّع الاتفاق، ما يعود إلى المشكلات السياسية الكبيرة للزعيم الباكستاني. وفي الوقت نفسه تقريباً، استمالت الولايات المتحدة شاه إيران، من أجل الحصول على قاعدة بحرية في تشابهار. وخسر كلاهما السلطة لصالح انقلابين مستمرين. أما عاصمة محافظة سيستان - بلوشستان المجاورة فقد تم تجاهلها، خصوصا بعد انقلاب عام 1979، الملطّخ بالدماء، لكونها إقليماً يحوي أغلبية سنّية نادرة. 
تُدين جوادر، إضافة إلى كامل ساحل مكران (ممتد على طول 1500 كيلومتر على الخط الساحلي، من إقليم الكوح شمال ميناء مينا في إيران إلى منطقة لسبيلة شمال ميناء كراتشي في باكستان) بالكثير للرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما. فقد صنعت أميركا سياسة "محور آسيا" لإعادة توازن سياستها الخارجية، ودعّمتها بالشراكة عبر المحيط الهادئ. وعلى الرغم من أنه كان متوقعا أن تكون إعادة ضبط أوباما روسيا ضربة معلم أخرى لرجل دولة، إلا أن السياسة الخارجية الأميركية كانت تتعثر كل مرة. وبينما حدّد "المحور" الهند، بوصفها المُستفيد الأكبر، بقيت الصين بعيدةً عن الردع. إضافة إلى تعزيز بكين سيطرتها على بحر الصين الجنوبي، عبر قواعد بحرية جديدة، فقد هزمت أيضاً واشنطن باستراتيجيتها "حزام واحد وطريق واحد"، وخطة "خيط اللؤلؤ". وأكمل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ذلك بالتخلّي عن اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ لمصلحة روسيا والصين. كانت "إعادة ضبط" البيت الأبيض روسيا في أحسن حالاتها هلوسة. وترك الحظ السيئ لأوباما المحيط الهادئ والهندي في خضم تحدّيات جديدة.
بصرف النظر عن مجموعة متنوعة من التجارب، تناسب جوادر تماماً المنظور العام للصين 
ولباكستان. وباعتبارها مُوقّعة على اتفاقية دفاع مع إيران منذ عام 2003، اختارت الهند ميناء تشابهار ليس فقط تحدياً لدخول الصين في المحيط الهندي، بل أيضاً من أجل تطويق باكستان، بينما تكسب دخولاً خلفياً في أفغانستان. ولكن إيران، وبموجب سياستها المعلنة، لا تصوّر تشابهار منافسة لجوادر، ولا على أنها قيمة استراتيجية للهند. وبالطبع، الواقع نقيض ذلك.
ونظراً لمكانتها الفريدة في الممر الاقتصادي الصيني- الباكستاني، من المتوقع أن تشبه جوادر سنغافورة في المستقبل. وتبرز تشابهار بوصفها رداً إيرانياً وهندياً على الصين وباكستان. كما يتنبأ محللون أن كلاً من الموانئ الوليدة سوف تُقلق دبي يوماً ما. فالإمارات العربية المتحدة التي دائماً ما صانت بغيرة احتكار موانئها في المنطقة، تراقب بحذر التطورات عند مصب مضيق هرمز؛ هل هذه الموانئ المجاورة، لكن المُنافِسة، تستحق الضجّة؟
أما بالنسبة لتشابهار، فيمكن قياس الفوائد المأمولة للهند، عبر استثمارها في المشروع إلى جانب غيره من المؤشرات. إذ التزمت دلهي، في وقت سابق، بما يقارب الـ 500 مليون دولار لتطوير الميناء، بينما خصصت ميزانيتها المُعلنة أخيرا 22 مليون دولار له فقط. كما تُقزّم تجارة الصين مع أعضاء مجلس التعاون الخليجي من تجارة الهند الحالية والمُتوقّعة مع دول آسيا الوسطى (بما فيها أفغانستان) ومع أوراسيا.
ليس من المتوقع أن تتعامل جوادر فقط مع صادرات الصين ووارداتها، من مجلس التعاون الخليجي وإليه، بل أيضاً إلى إفريقيا، وبشكل جزئي إلى أوروبا. ولكون الصين مستهلك الطاقة الأكبر في العالم منذ عام 1993، فإنها تلتهم ما يزيد عن 25% من الإنتاج العالمي؛ ودول مجلس التعاون الخليجي مصدرها الأكبر للهيدروكربونات. وبحلول عام 2020، سترتقي الصين درجةً لتصبح أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي. ومن المرجح أن تبلغ واردات العملاق الآسيوي من دول مجلس التعاون الخليجي ما يعادل 160 بليون دولار، بينما ستصل الصادرات إلى 135 بليون دولار. وبحلول عام 2025، ستتحوّل تجارتها البحرية بشكل كبير إلى ميناء جوادر الباكستاني، بدلاً من المرور عبر مضيق ملقا الضيّق والمتوتّر في بحر الصين الجنوبي. في الوقت الراهن، تُعتبر السعودية أكبر شريك تجاري نفطي للصين بعد روسيا، إذ تُوفّر أكثر من 15% من إجمالي وارداتها السنويّة. ومع التوقيع المرتقب لاتفاقية التجارة الحرة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي هذا العام، ستتجاوز الصين الاتحاد الأوروبي بأكمله بوصفه أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي. ونظراً للاعتماد الشديد على باكستان، فإن دول مجلس التعاون الخليجي، مثل السعودية وقطر، تُفكّر ملياً في إنشاء مصاف وتمديد خطوط أنابيب إلى جوادر. وتعيد أرامكو سلفاً تنظيم وتنويع نفسها، في الوقت الذي تواصل فيه استراتيجية عدوانية ومتعدّدة الجوانب للنمو.
إلى حد كبير، فإن جوادر متقدمة كثيراً على تشابهار، فيما يتعلق بالتنمية، وباعتراف أكبر بالعلامة التجارية وسط الصناعة البحرية. أما موقف إيران الأمني الحربي وسياسات التدخّل المتمثلة في إيواء جهات فاعلة غير حكومية في بلدان إسلاميّة، يعرّضها باستمرار لخطر الحرب، إضافة إلى العقوبات.
كانت تشابهار، ولا تزال، ميناء صيد ولا تضاهي جوادر، التي هي ميناء طبيعي هو الأعمق في آسيا، وحاجته إلى تجريف مستمر حاجة قليلة. فجوادر مناسب بشكل طبيعي لترسو فيه "ناقلات النفط الخام الضخمة جداً (VLCC)"، في حين أن تشابهار سيتطلّب جهد صيانة وتطوير هائل.
لكن، لن تتمكن جوادر أو تشابهار أبداً من تحدّي ميناء جبل علي وميناء راشد في دبي. إذ
بينما تخضع الموانئ الساحلية لمكران للتطوير، تتباهى موانئ دبي بـ 102 مرسى سفن، مع محطات إمداد نفطية نشطة لنواقل النفط الخام الضخمة جداً VLCC. وفي حين أن الميناء الإيراني لا يوازي إمكانية وسعة منافسه الباكستاني، فإن جوادر ستكمّل التجارة البحرية للإمارات العربية المتحدة. وفي الفترة المقبلة، سيواجه مضيق هرمز دائماً مزيدا من الازدحام، والذي يمكن حلّه، إما عبر تمديد خطوط أنابيب إلى ساحل مكران لتخديم الصين، وباكستان والدول الأخرى التي تشتري النفط من دول مجلس التعاون الخليجي، أو عبر استخدام ميناء جوادر باعتباره مرسىً مساعدا.
وبينما تؤمّن باكستان مياهها الإقليمية الشاسعة من محاولات تخريبية منافسة، فإنها تحتاج إلى مأسسة نظام الشراكة البحرية مع موانئ دول مجلس التعاون الخليجي. بالإضافة إلى ذلك، فإنها تفتقر إلى واجهة متعددة الأطراف مع مجلس التعاون الخليجي فيما يتعلق بتشكيلة واسعة من القضايا. وقد كانت بكين تفكر ملياً في المشاركة الكاملة في حوار استراتيجي بين الصين ودول مجلس التعاون، إذ إن روابط باكستان مع دول الخليج علاقات ثنائية الجانب. وعلى نقيض الهند، فإن الجمهورية الإسلامية لا تحتفظ حتّى بوضع مراقب في جامعة الدول العربية. وينطبق الأمر نفسه، على الاتّحاد الإفريقي، إذ إن جوادر ستكون مُحرّك تجارة القارة الكبرى مع الصين وباكستان وآسيا الوسطى.
ومن المقرر أن تكون دبي وجوادر ميناءين شقيقين، لأن الصين الآن هي شريك التجارة غير النفطية الأكبر للمدينة. وبالتالي، فإن كامل الحصة البحرية تقريباً من تجارة الإمارات والصين المقدرة بـ 50 بليون دولار ستحدث عبر جوادر. ومن أجل كل الأهداف العملية، ستستثمر الدولة الخليجية في الميناء الناشئ، بدلاً من نسفه مثل جيران باكستان. دبي ميناء ناضج بمنشآت حديثة متطورة تقع في قلب دول مجلس التعاون الخليجي، بينما سيكون على جوادر أن تتعلم الكثير من قصة النجاح. على أية حال، قد تواجه دبي تهديداً (ترهيباً) جدّياً من ميناء صحار العُماني، وهو المتحدي الأكثر واقعية وطموحا للموانئ التي تطفو على مضيق الخليج العربي، وهو يقع مباشرة خارج المعبر المختنق. ويفصله عن جنوب شرق دبي 200 كيلومتر، بدأ صحار بالمنافسة على المرور مع جبل علي وموانئ أخرى كُبرى داخل الخليج. ومدعوم بنظام السكك الحديدية العُماني. وستضع شبكة السكك الحديدية الخليجية المخطط لها صحار على قدم المساواة، إن لم يكن فوق دبي بعد عشرة أعوام أو أقل. وبمجرد جاهزيته بالكامل للعمل، سيساعد جوادر على تعزيز التجارة البحرية في دبي وصحار، بينما يُقلل من تحدي الازدحام. وعُمان عضو في مجلس التعاون الخليجي، وبالتالي تتمتع بمنافعه، وتستعد لآفاق مستقبلية تنبع من إصلاح اقتصاديات السعودية وغيرها. ويرتبط مصير مسقط بدول الخليج أكثر مما يرتبط بإيران التي حافظت مسقط أمامها على الحياد مدة طويلة، والتي من الممكن أن تصبح ضحية للجيوسياسة البحرية الآخذة في التطور مع بروز الصين أفضل شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي.
أما تشابهار على أية حال، فستبقى رهينة للسياسات الحربية للنظام الإيراني، في الوقت الذي تفتقر فيه إلى تنمية البنى التحتية، فضلاً عن الرغبة بأن يكون لها دور مميز كالذي يمتلكه الثلاثي المنافس لها.