كورونيات (3)

كورونيات (3)

20 ابريل 2020
+ الخط -
قبل أيام، ووسط نوبة التصفيق والتهليل التي تبدأ في السابعة مساء كل يوم تحية من أهالي نيويورك للأطباء والممرضين الواقفين على خط المواجهة مع فيروس كورونا اللعين، فاجأنا أحد الجيران ـ الهنود كما أظن فقد يكون باكستانياً أو بنغالياً ـ حين انتهز فرصة انخفاض صوت الأغاني التي تنبعث عالية من سمّاعة أحد الجيران لتحميسنا ورفع معنوياتنا، وأخذ يصرخ ويهتف متحدثاً بلغته التي لم أستطع تحديدها.

كان يبدو أن جارنا المتحمس يعاني مثلنا من مشاكل العزلة، ولذلك قرر أن يفشّ غلّه لكي يرتاح، ويبدو أنه شعر بالورطة حين وجد البعض ينظرون إليه بقلق وتوجس، خاصة أن أعراض الوطنية ظهرت على الكثير منهم في الأيام الأخيرة كأثر جانبي لمناخ الخوف، فبدأ بعضهم يعلق أعلام أمريكا على البلكونات، لما هو معروف عن فعاليتها في تقوية جهاز المناعة ومقاومة الفيروسات، ويبدو أن هذه الأعلام استفزت جاراً في عمارة مواجهة فقام بتعليق علم البرازيل في البلكونة، ربما اعتراضاً منه على موقف الرئيس البرازيلي بولسانارو الذي ينافس دونالد ترامب في الانحطاط والتطجين.

لكن هؤلاء على أية حال أرحم من جار آخر، بدأ منذ خمسة أيام في تطوير طقس التصفيق والتهليل في السابعة من مساء كل يوم، ليقوم مع بداية التصفيق بالجري حول الحديقة الدائرية الصغيرة التي تتوسط العمارات المجاورة لنا، وهو يلوح بعلم أميركا، وقد بدا لي من مراقبة عضلات وجهه المتشنجة أنه لا ينوي الكف عن ذلك قريباً، ولا أعتقد أن كل هذه التصرفات كانت غائبة عن ذهن جارنا ابن الهند أو نواحيها، ولذلك قرر الجار أن يختم خطبته المتشنجة والقصيرة بترديد"USA, USA, USA"، فصفق له عدد من الجيران الذين ظنوا أنه أراد التعبير عن مشاعره المحبة لأميركا ولكن بلغته الأصلية.

أعجبت اللعبة جارنا الهندي على ما يبدو، فقرر بعدها أن يواصل طقسه الخطابي القصير الذي ينتهي بالهتاف لأمريكا، ولو كانت بلكونته قريبة مني لقمت بتسجيل ما يقوله وأرسلته إلى صديق للترجمة، لكنها بعيدة عني بحيث لا يصلني من خطبته إلا الزياط، الذي أصبحت أشك أنه ليس إلا كوكتيلاً من الشتائم واللعنات للكون والجيران والعيشة واللي عايشينها، وأظنه يحمي نفسه بالهتاف التمويهي لأمريكا في نهاية الخطبة القصيرة، وأخشى أن تدفعه الرغبة في التمويه إلى التليوح بصورة دونالد ترامب، لأنها ستكون غلطة فادحة، فقد وصلت حالة العداء لترامب في نيويورك إلى أقصى درجاتها، بعد أن نال المدينة وأهلها من سفالاته الكثير مؤخراً.


فكرت بالأمس أن أحذو حذو الجار الصاخب، فأنتهز أي فرصة تتوقف فيها الموسيقى لأهتف بعزم ما فيّ: "وشرفك يا بلدي.. سحابة وتعدي"، بأداء الفنان وجدي العربي، ثم أغني: "تفوت عليكي المِحَن.. ويمر بيكي الزمان.. ومهما كان انتي مصر.. وكل خطوة في نصر" حريصاً على أن أضيف "طاطاطاطن" في منتصف الغناء، لكي تضفي على ما أقوله طابعاً مرحاً يخفف تحفز الجيران الوطنجية الذين تثير اللغات الغريبة ريبتهم، لكني فكرت إن تضاعف حجم لحيتي بسبب إغلاق صالون الحلاقة، سيجعل تلك الخطوة مخاطرة بلهاء، ولذلك قررت تأجيلها إلى ما بعد تخفيف ذقني، وحين تذكرت أن فتح صالونات الحلاقة سيتأخر، هتفت وسط الزيطة: "وشرفك يا بلدي.. سحابة وتعدّي"، فارتحت بعض الشيء لأنني استطعت تمثيل مصر في هذا الطقس التضامني، مؤجلاً غناء "تفوت عليكي المِحَن" إلى حين انتهاء تجاربي على استخدام ماكينة الحلاقة، التي جاء أخيراً أوان استخدامها.

.....



قادتني الصدفة وحدها إلى قراءة هذه التغريدة التي كانت جزءاً من سلسلة تعليقات على تغريدة نشرها الحساب الرسمي لمنظمة الصحة العالمية باللغة العربية، وقد شعرت أن المساهمة في نشرها أمانة، لأنها قد تحمل علاج فيروس كورونا الذي يبحث عنه الكل دون فائدة حتى الآن.

أعترف أنني ظننت أن كاتبها يسوق الهبل على الشيطنة، ولذلك أخذت جولة متمهلة في حسابه، فوجدته يتحدث بجدية شديدة، ليس في هذا الموضوع فحسب، بل وفي كافة التحديات التي تواجهها البشرية، وله محاولات شبيهة في حلها، ولذلك قلت لنفسي الأمّارة بالسوء: ولم لا؟ ألا يضع الله سره في أضعف خلقه؟ أليس ممكناً أن الكارثة التي بدأت بشخص قام بسلق مؤخرة خفاش لإعداد طبق شوربة، يكون حلها في خصية خفاش آخر؟

كل ما يقلقني وأنا أضع هذا الحل الثوري بين أيديكم، أن يكون الأستاذ المخترع وهو صاحب ذوق رفيع فهو من عشاق فيروز كما ترون، قد نسي تسجيل علاجه في الشهر العقاري وأكاديمية البحث العلمي أو أكاديمية ناصر للعلوم العسكرية أو أكاديمية السادات للعلوم الإدارية أو الأكاديمية العربية للنقل البحري، أو أي من المحافل العلمية المرموقة، ولذلك أتمنى أن تتعامل الجهات المسئولة معه بوصفه "عبد العاطي قاهر الفيروسات" الجديد، فتساعده على حفظ حقوقه الفكرية، وتتبناه ليكون هدية جديدة من مصر للعالم الذي تحسنت أحواله كثيراً منذ بدأت مصر في مهاداته.

.....

كتب صديق تدوينة على الفيس بوك يعبر فيها عن حزنه الشديد، لأنه شاهد فيديو يتحدث فيه طفل تم حبس أبيه وأمه الصحفيين ظلماً وعدواناً، لأنهما يدافعان عن حقوق المعتقلين السياسيين، وتمنى صديقي أن يحرك الفيديو قلوب المسئولين، فيقرروا الإفراج عن والدي الطفل وعن كافة المعتقلين السياسيين الذين لم يثبت تورطهم في عنف، فدخل على تدوينته المنضبطة شخص يبدو أنه يعرفه جيداً، وكتب: "أنا ملاحظ إنك الفترة اللي فاتت بتكتب كتير عن المحبوسين وإنهم لازم يخرجوا قبل ما يتصابوا بكورونا، أتمنى يكون ده لوجه الوطن وما يكونش ليك مصلحة في اللي بتقوله ده وربنا يحفظ مصر".

لاحظت بعد قراءة التعليق، أنني لم أتجاهله وأتجاوزه سريعاً، كما تعودت أن أفعل في السنوات الماضية، ربما لأنني قمت منذ فترة بتخزين كل ما أملكه من طاقة مناعية لأستخدمه في الضرورة القصوى، ولذلك نجح هذا التعليق في اختراق خطوط مناعتي، لأنه جعلني أفكر في طبيعة الإنسان الذي يمكن أن يتخيل وجود مصلحة شخصية قد تعود على من ينشر فيديو لطفل يشتاق لأمه وأبيه ويتمنى رؤيتهما، بل وثبت لي أن حصوني النفسية مهددة من الداخل، حين ضبطت نفسي أسائل نفسي كيف لم يتأثر هذا الإنسان بكل ما يحدث في العالم من موت يفتك بالنفوس، وهي حقيقة لم تعد تحتاج إلى رسوم جرافيكية وبيانات إحصائية للتأكد منها، فكيف لم يُخِفه ذلك أو يرقق قلبه، فيضعف ولو للحظة، لا ليشارك صديقي في حزنه، وإنما ليدير وجهه بعيداً ويتجاهل ما كتبه، بدلاً من حرق بعض السعرات لمجرد استكثار رفض الظلم والتشكيك في سبب مشاركة المظلوم في حزنه.

ولأن نفسي تعودت بحكم التجربة على تصحيح مسارها أولاً بأول، فقد شجعتني على فتح رابط تقرير صحفي يحكي عن متطرفين بيض في أمريكا، فكروا في الأسابيع الأولى من انتشار فيروس كورونا المستجد، أن يقوموا باستغلال الفيروس لتعزيز تفوق العرق الأبيض ديموغرافياً، بحيث يعبئونه في سبريهات يرشون منها على الملونين، وقد رصدت المباحث الفيدرالية (إف بي آي) محاولاتهم هذه التي وردت في مراسلات تبادلوها على تطبيق تليجرام في 17 فبراير الماضي، قبل أن يستفحل انتشار الفيروس في أمريكا، ويتضح أن عدوى الفيروس لا تعتق أحداً أياً كان لون بشرته، وبالتالي يمكن لهذا المشروع الحربي الجرثومي أن ينقلب بغم على أصحابه، وحين قرأت كل هذه التفاصيل شعرت أنني أحتاج إلى الذهاب إلى تدوينة صديقي، لأشكر ذلك المواطن الرقيق، لأنه اكتفى بصياغة شكه في نوايا صديقي الحزين بأسلوب مهذب، ولم يطالب برشه بفيروس الكورونا هو والمساجين وأطفالهم وكل من يتشدّد لهم.

لم أغضب كثيراً من نفسي لأن أداءها المناعي تدهور في مواجهة مثل هذه السخائم، إذ يُحسب لها أنها تغلبت على ضعفها اللحظي، وحتى لو كانت قد تأخرت في ذلك، سيظل حالها أحسن من أصدقاء من أبناء أيامي وتجاربي، ضبطتهم متلبسين في الأيام الماضية بكتابة كلام يقول إن فيروس كورونا يشكل فرصة لبناء عالم جديد تستفيد فيه الإنسانية من الدروس المؤلمة التي عاشتها، يعني، الحمد لله، "قضا أخف من قضا".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.