كورونيات (2)

كورونيات (2)

12 ابريل 2020
+ الخط -
منذ شهر ربما، لم أكن قد خرجت خارج الحي النيويوركي الذي أقيم فيه، قبل ثلاثة أسابيع كانت هناك زيارة إلى الطبيب فلم أحسبها "خروجة". كنت في حاجة ماسة إلى كسر الروتين المزعج، فكرت في الذهاب إلى مانهاتن أو بروكلين، لكن الوقت كان ضيقاً، والمخاطرة غير مأمونة العواقب، لذلك قررت أن أكتفي بالذهاب إلى منطقة (أستوريا) لشراء طلبات للبيت من محل بقالة مصري. الطريق الذي كنت أقطعه في ساعة أحياناً من شدة الزحام، "عدّى هوا" مع أنني تحركت في أحد أوقات الذروة، لا أحد يجوب الشوارع والحدائق سوى بشر قليلين جداً، أغلبهم يقومون بتمشية كلابهم، و(أستوريا) الحي المزدحم والمليء بالضجيج دائماً شكله وصوته غير مألوفين بالمرة، فاضي وهادئ بشكل مقلق، وفي وسط كل ما يحيط بي من مشاهد مربكة، وجدت أمامي هذه السيدة التي ستراها في الصورة أدناه، والتي وجدت أن الجو مشمس وجميل بعد أكثر من يوم غائم، فقررت ترك بيتها الذي لعله كان في دور أرضي أو تحت أرضي، لكي تنبسط بالشمس والهواء مثل جارها الجالس في البلكونة، هاربة من كل ما يحيط بها إلى هذا الكتاب، الذي يتمنى جميع المؤلفين قدرة مؤلفه على تحقيق هذه الدرجة من التوحد والاندماج مع القارئ. 



سبقه صوته من خارج المحل، كان ينهال بأوسخ الشتائم على سيدة تسير على الرصيف المقابل من الشارع، التفت أنا وصاحب المحل نحوه في استياء من دوشته، كان قد عبر الستين عاماً بكثير مثل ما يبدو من ملامح وجهه الذي لم تغطه الكمامة كاملاً، حين وقع بصره علينا ورأى تحفزنا، أخذ يوضح بدون أن نسأل، أنه قرر أن يشتم السيدة التي يعرف أنها مصرية وتفهمه جيداً، لأنها تجاهلت محاولته أن يركن سيارته في المنطقة التي سبقته إليها وركنت فيها. 

كان الشارع الذي يسمونه "ليتل إيجيبت" بسبب كثرة المحلات والمقاهي المصرية فيه خالياً على غير العادة، ربما كانت هذه أول مرة أراه خالياً كهذا منذ عام 2012 الذي جئت فيه إلى هذا الشارع لأول مرة، لا زحمة ولا كلاكسات ولا ضجيج، ولا أحد يمارس هواية "الركن صف تاني"، ولذلك بدا لي عبثاً ما فعله ذلك الرجل الكُبّارة والذي نزل من عربية شديدة الفخامة، ماشياً مشية "الشمحطجية" التي لن تجد توصيفاً محدداً لها في الكتب، لكن أحداً ما قال زمان إن الشمحطجية يمشون هكذا، فاعتمدت توصيفه، وأصبحت أعتبر أن منحطي السلوك وغلاظ الطباع يمشون هكذا. 

لم يدرك الرجل أننا لسنا مهتمين بسماع مبررات لشتائمه، ولم يفهم تحديقنا العدائي في وجهه، فقال لصديقي الطباخ المعتبر الذي أذهب من آن لآخر لشراء بعض من أكله الجميل وبضاعته التي يأتي بها من مصر: "أنا خفت أحسن أكون شتمت حد تبعكم.. بس أنا عارف الست بتاعتك.. هي محجبة ومحترمة"، فأضاف بما قاله سبباً آخر للاشتباك اللفظي معه، لكن المحل والوقت والخُلق كانوا أضيق من الدخول في أي نقاش من أي نوع مع شخص لم يفرق معه عبور الأطلنطي ببصلة، فقررنا الصمت والتجاهل، ولأنه وجد صمتنا غريباً، فقد قرر اللجوء إلى السلاح الأكثر فتاكة: سلاح اللزوجة، فقال بعد لحظة صمت: "ما ألاقيش عندكو شيكولاتة كورونا" إشارة إلى نوع شيكولاتة شهير وقديم يباع في مصر، يتطابق اسمه مع اسم الفيروس اللعين، كان أصغر أخوالي بالمناسبة يعمل في الشركة التي تنتجه وأنا طفل، ولذلك لا زالت رائحة المنتجات التي كان يأتي بها من المصنع تشكل أهم ركائز ذاكرة الطفولة. 

إزاء سؤال أخينا اللزج، قرر صديقي صاحب المحل أن يخاصم الدبلوماسية التي يتحلى بها عادة، ورد عليه بعدائية: "بص بقى أنا ممكن أسامحك في وقت زي ده على أي حاجة إلا الاستظراف"، ليقرر الرجل بعد "حلقة" متينة كهذه، أن يزيح نفسه إلى أبعد ركن في المحل، لأعود أنا وصديقي لتبادل النصائح عن فوائد الصوم المتقطع في تقليل الوزن وأفضل طرق تقضية العزل الأزلي، في حين كنت أفكر في درجة حرارة الفرن المناسبة التي يجب أن أضع فيها محشي الكرنب الذي سأشتريه، لكي يتطهر تماماً من أي أثر محتمل للفيروسات، فيصبح "مِحروَقاً" من غير أن يحترق. 

----------------------

تمكنت هذه الفترة العصيبة التي نعيشها من رد الاعتبار بقوة للبلغم، بعد أن كان هناك موقف شعبي واضح ضده لأسباب غير مفهومة. أذكر أنني في أحد أشهر رمضان الماضية، في سنة 2008 ربما، كتبت مقالاً في زاوية (اصطباحة) اليومية التي كنت أكتبها في صحيفة (المصري اليوم) أسخر فيه من ظاهرة الفتاوى الغريبة التي يطلبها بعض الصائمين من مشايخ البرامج التلفزيونية واخترت للمقال عنوان (هل يُفطر أكل البلغم؟)، فطلب مني رئيس التحرير تغيير كلمة البلغم لأنها ثقيلة على القراء، فقمت بعمل تخريجة ساخرة وغيرت العنوان إلى (هل يُفطر أكل الغيمو؟). 

لا أظن أن ذلك التحفظ كان سيحدث الآن، خصوصاً بعد أن أصبح شائعاً بين الناس أن السعال الخطر والناقل لفيروس كورونا اللعين، هو السعال الناشف الذي لا يوجد فيه بلغم، وبالتالي أصبح هناك احتفاء عام بوجود البلغم، أراه واضحاً في الكثير من تدوينات وتغريدات الأصدقاء الذين يبتلون بأدوار برد في هذه الأيام المفزعة. كنت أقول لصديق قبل أيام أن المنديل الذي يوجد فيه بلغم، أصبح مثل منديل ليلة الدخلة الذي يعتبره البعض حتى الآن في بلادنا دليلاً على شرف العروسة، وأنك حين يسمع البعض صوت كُحّتك لن ينقذك من الشك القاتل سوى منظر البلغم وهو ينور بخضاره منديلك الأبيض، وأظن أن استمرار الوباء سيزيد من وتيرة ذكر البلغم في الحوارات العادية، ومن يدري ربما وصلت كلمة البلغم إلى لغة الغناء "المين ستريم"، لنسمع مقطعاً في أغنية يقول كلاماً من نوعية "يا حبيبتي فرحتي.. زي البلغم في كحتي" من باب وصف الفرحة التي تأتي بعد طول انتظار، أو فرحة الإنسان بالنجاة من الهلاك. 

قبل أيام، عانيت من نوبة سعال ارتبطت بدور برد سخيف في توقيته برغم اعتدال أعراضه، فكرت أن جاري في العمارة سيقلق حتماً حين يسمع صوت سعالي المتكرر، وما يجعل قلقه مهماً بالنسبة لي أكثر من غيره كونه مشرف العمارة التي أسكنها، ومع أنني أتسامح مع الزياط والصخب الدائمين لكلابه التي تعاني من حالة هياج عقلي دائم، لكنه بالتأكيد لن يتسامح مع صوت كُحّتي الذي سيثير قلقه، ولأن عرض آثار البلغم عليه بعد كل نوبة سعال لن يكون ممكناً عملياً، فكرت أن أقوم بعد كل نوبة كُحّة بالصراخ هاتفاً باسم البلغم ولكن بالإنجليزي، كأني أطمن زوجتي إلى وجود بلغم، فتصل رسالة الطمأنة إلى جاري بشكل غير مباشر، ولأنني لم أكن أعرف كلمة (بلغم) بالإنجليزية، فقد لجأت إلى جوجل واكتشفت أن من الإعجاز اللغوي أنها تكتب هكذا بالإنجليزية phlegm وقد قال صديق مطلع طبياً أن أصل الكلمة يوناني لم يتمكن العرب من ترجمته، ولذلك انتقل منهم إلى كتب الطب العربية ومنها إلى كتب الطب في أوروبا، لكن ناطقي الإنجليزية تخلوا عن نطق حرف الـ g في الكلمة، وبالتالي فقدت لفظة (البلغم) زخمها العربي المميز المستمد من حرف الغين تحديداً، وتحولت إلى مجرد شيء عادي وتافه الحضور يُنطق هكذا: "فليمّ". 

المشكلة أن صوت الكلاب اختفى تماماً منذ يومين، ولم أعد أعرف هل هجّ جاري من نيويورك وعاد إلى موطنه الأصلي كولومبيا، ليختبئ في حضن أمه بعد أن سمع صوت كحتي ذات "الفليمّ"، أم أنه ربما يكون قد ذهب إلى المستشفى بعد أن التقط الفيروس بحكم عمله الذي يجبره على اللف في جنبات العمارة، وسألت نفسي: هل سيكون من الحكمة أن أمشي وأنا أحمل معي من باب الاحتياط منديلاً ملطخاً بالبلغم، إذ لربما قابلت جاري القلق في طرقة العمارة، لأقوم وقتها بإخراج المنديل وأنا أقول له بصوت خالتي فرنسا: "شريفة شريفة وشمعتي قايدة".   

___________

حين وجدت أن كثيراً من أصدقائي الشعراء لا يقومون بأداء دورهم الشعري اللازم في مواجهة فيروس كورونا، قررت أن أرسل إليهم رسالة تحذير، معارضاً دالية أبي الطيب المتنبي الشهيرة بهذه الأبيات: 

عيد بأي وباءٍ عدت يا عيدُ.. كيف السرورُ وفي الأجواء كوفيدُ 

أما الأحبة فالفيروسُ دونهم.. وصار يفصلنا عن حضنهم بيدُ

لم يترك الذعر من قلبي ولا كبدي.. شيئاً تُسرُّ به عينٌ ولا إيدُ

يا ساقييّ أخلٌّ في كؤوسكما.. أم شوربةٌ أم خراءٌ مثلكم جودوا 

أبلغمٌ أنا مالي لا تنشِّفني.. هذي العقاقير ولا هذي الزغاريدُ

حتى متى سأظل مرزوعاً .. عن الجوى وعن الترحال محدودُ

أكلما اشتاق للخفاش مفجوعٌ.. هاجت علينا وباءاتٌ مناكيدُ 

ما كنت أحسبني أحيا إلى زمنٍ.. يقال للخارجِ العاديّ صنديدُ

فرّج علينا إله الكون وارحمنا.. فقد زهقنا وما تفنى العناقيدُ". 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.