كورونا وزمن الشعر

كورونا وزمن الشعر

01 يوليو 2020
خالد البكاي/ المغرب
+ الخط -

قَدَرُ الشعر أن يكون بفضل مكوّنه الإيقاعيّ أقدمَ فنّ يبتكره الإنسان، وأشدّه التصاقاً به، لسبب مادي بسيط جدّاً؛ هو اكتفاؤه باللغة وحدها بصفتها المادّة الرئيسة في صياغته لفنّه، وبنائه لعالمه، دونما ارتهان إلى الحجر أو البردي أو الجلد أو الورق ليُكتب فيها، ولاعتماده الذاكرة والصدورَ ليَصمُد في وجه الزمان، وليُخلّد نفسَه، مُستغنياً بذلك عمّا تتوسّل به باقي الفنون الأُخرى لكي تُحقِّق ذاتها، من آلات موسيقية، أو ألوان، أو صخور، أو صفحات، أو غيرها.

لا غرابة، إذن، في أن نجد الشعرَ، في البيئة العربية الصحراوية، مهيمناً على باقي الفنون، ويقوم بأدوار متنوّعة، وأنه يُعرَّف من قِبل عمر بن الخطاب بكونه "علم قوْمٍ ليس لهم علم أصح منه"، لاتخاذهم إيّاه وسيلة إعلامية وإخبارية بأيامهم وعاداتهم ولُحمة بين البشر أيضاً، وأن نرى أبا فراس الحمداني يَتغنّى مُردِّداً: "الشعر ديوان العربْ/ أبداً وعنوان الأدبْ"، بمعنى أنه يضيف إليه نعتَ أب الفنون ورائدها، زمنيّاً على الأقل، على اعتبار أنه الجنس الأدبي الأول والأكثر حضوراً واعتباراً.

ولم يختلف القدماء والمعاصرون على أن الشعر ذاكرةُ الإنسان، فيه يحفظ تراثه وتجاربه، ويدوّن معيشَه، ويرسم تطلعاته، ولعل ذلك ما نستشفه لدى بعض الشعراء الغربيين الحديثين مثل الإسبانيّ غابرِيّيل ثِلَايَا، الذي ذهب إلى أن: "الشعر سلاح معبَّأ بالمستقبل".

وعلى الرغم من ترديد كثيرين، منذُ عقود، لشعار اندحار دولة الشعر أمام سطوة النثر، أو بالأحرى هيمنة زمن الرواية تحديداً، فإن اللافت حالياً هو عودته القوية إلى احتلال صدارة الفضاء الرقمي الذي يُعدّ الآن في زمن جائحة فيروس كورونا تجسيداً فعليّاً لما ذهب إليه الشاعر غابرِيّيل ثِلَايَا أعلاه.

لقد أثبت الشعرُ، اليومَ، بما يفتح من أراض معرفية خصبة، وما يَفسحه من فضاءات ثقافية لا متناهية، أنه الفنُّ الأكثر شحنا للإنسان بالأمل، وبالطاقة المتجدِّدة لمجابهة التهديد بالفناء والحجرِ الصحي، والتباعد الاجتماعي وغيرها، وبأنه أكثر ارتباطاً بمستقبل الكائن دون سواه، وبما ينبغي للبشر العناية به، في قادم الأيام، من تفاصيل صغيرة في حياتهم، التي لا شك في أن نظام العيش الاستهلاكي أنساهم إياها.

وجلي أن جائحة كورونا يسَّرتْ للشاعر فرصة اللقاءِ بذاته؛ واستدراره لطاقتها من خلال التعمُّق في دخيلته، وإعادته النظر في كثير من اختياراته وقراراته وممارساته، وجعلته لا يقتصر على وضع القارئ المثقَّف وحدَه نصب عينيه، بل نبّهته إلى ضرورة الالتفات إلى الإنسان البسيط، وإلى ضرورة التواصل معه عبر شعر يتجاوز الوصف، لينهض بدور التحريض على التغيير، والدعوة إلى البناء، ودفعته إلى الانتباه إلى دوره الخطير في الحفاظ على إنسانية الإنسان، وإلى وجوب أن يكون نبيًّا في زمنه الذي قُدِّر له أن يوجد فيه، وأن يؤدّي الرسالة التي أُوكلتْ إليه، والتي جاءتْ على لسان الشاعر الألماني هولدرلين، الذي رأى أن "ما يستمر يؤسسه الشعراء"، أي أن مستقبَل الإنسان لن يكون إنسانيا إلا إذا ارتكز على قيم الشعر النبيلة، بما يُتيح من تعايش وتفاهم ومحبة، وإيمانٍ بالمصير المشترك.

لا شك في أن خسائر الدول والمجتمعات والأفراد جرَّاء جائحة كورونا فادحة، لكن ما لا يمكن إنكاره هو استعادة الطبيعة بعض عافيتها، ووعي البشر بما فرَّطوا فيه من علاقات إنسانية. وها نحن نرى الشِّعر يُحتفى به يوميا على شبكات التواصل الاجتماعي من خلال قراءات لشعراء يُدرِجونها في الـ "يوتيوب" أو الـ "فيسبوك" أو غيرهما، أو عبر تنظيم مهرجانات عالمية للشعر مُباشِرة وعابرة للقارات، تحتضنها منصات رقمية متنوعة، ويُشارك فيها شعراء من شتى الثقافات والجنسيات، بل إن ندوات كثيرة موضوعها الشعر في زمن الكورونا فاجأت الناس، وقرَّبتْ إليهم هذا الفن العريق، بتناولها لقضاياه المختلفة.

ولعل أبرز المبادرات الشعرية، التي عرفها زمن الكورونا، تلك التي دعتْ إليها إحدى الإذاعات الأميركية، التي نادت مستمعيها إلى التفاعل شعريا مع لوحتيْن لكاديري نِيلسون وسَالْفَادور دَالي، بقصيدة في حدود عشرة أسطر، وانطلاقا من جُماعِها الذي بلغ 1300 قصيدة، صاغ الشاعر كْوامي ألِكسندر قصيدة بعنوان "تباعد اجتماعي"، التي نُشرتْ موقَّعة من قِبل من ظهرتْ أبياتُهم فيها، وتلك لعمري هي اللحمة التي لا يُمكن أن يُحقِّقها فنٌّ آخر سوى الشعر.

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون