في الجمهورية الثانية المُمتَنعة

في الجمهورية الثانية المُمتَنعة

04 ابريل 2014

تونسيون أمام مركز اقتراع في انتخابات المجلس التأسيسي

+ الخط -

لم تبرز بعد، في تونس وليبيا واليمن، وفي مصر أيضاً التي جرٓبت في نحو عام وثيقتين دستوريتين، وعلى الرغـم من مُرور أكثر من ثلاث سنوات على بدء "الربيع العربي"، لم تبرز الملامح النهائية للجمهوريات الثانية. وهنا، فإن خصوصية الحالة الثورية العربية، من حيث غياب الطابع الأيديولوحي والتنظيم الثوري "المركزي"، أَثرت على تعقد مسارات الدٓسترة، وعلى صعوبة إيجاد نماذج تفسيرية مُطابقة، تمتح من فرضياتٍ تقدمها المعرفة العلمية، المتعلقة بتدبير السؤال الدستوري، في لحظات الانتقال إلى الديمقراطية.
مأزق دستورانية الربيع العربي بدأ منذ الأيام الأولى التي تلت الثورات، مع إشكاليات تدبير الانتقال الدستوري، على ضوء الشرعية الثورية الطارئة، ثم مع النقاش المتوتر الذي انطلق بشأن ترتيب أجندات المرحلة الجديدة، وأخذ صيغة جدل التأسيسي والتمثيلي، ببروز السؤال: هل نبدأ بالانتخابات أم بالدستور؟
الاستقطابات السياسية الحادة للقوى والفاعلين داخل الدولة والمجتمع، في زمن ما بعد الثورات، أدت إلى نوعٍ من كثافة الطّلب على الدستور، فقد توالت الإعلانات الدستورية، أو حتى موجات الدٓسْتٓرٓة، والتي واكبت تحولات كبرى شهدتها هذه الدول، توزع الفاعلون بين اعتبارها موجة ثورية ثانية، أو ثورة مُضادة.
كثافة، لا شك، أنها أسهمت في تحميل المطلب الدستوري انتظاراتٍ كثيرة، وحتى الأوهام، التي، بعيداً عن أي تنسيب تاريخي، تجعل التفكير في اللحظة الدستورية تفكيراً في قطيعة مُتخيلة حادة، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
 من حيث الشّكل، لا تعد إعادة الاعتبار للسلطة التأسيسية المُنْتٓخٓبٓة في صياغة الدستور قاعدة عامة لكل هذا المسار، إذ عرفت الحالة المصرية لما بعد 30 يونيو حزيران 2013 مٓنْحىً مُغايراً.
من حيث المضمون، فإن "انْفِجار" قضية الهوية، كأثر مُباشر لسقوط الأنظمة السُلطوية، شكل أول اختبار صعب لكٌتاب الدساتير؛ حيث انطلق النقاش التقاطبي بشأن مُحددات الانتماء الوطني بين العروبة والإسلام والهويات الثقافية الفرعية، وبشأن طبيعة الدولة، وطرحت قضايا الدولة المدنية، وموقع الشريعة الإسلامية في صناعة القانون. وبدا أن توافقاتٍ صُنِعت -على عٓجٓلٍ -داخل ساحات الربيع، بين الإسلاميين والعلمانيين، يمكن أَن تكون أكثر هشاشة مما نتصور.
 مرجعيات الحراك الثوري، وقوة الحضور المُجتمعي التي طبعت الفعل السياسي في فورة ما بعد 2011، جعلت صياغة الدساتير تذهب في اتجاه الأجيال الجديدة من دساتير الحقوق، بتوسيع دائرة حقوق الإنسان المدسترة، وضمانات حمايتها، والمُشاركة المدنية عبر الانفتاح على أشكال جديدة من الديمقراطية المواطنة والتشاركية. كما أن اختلاط المطالب السياسية بأصوات الاحتجاج الاجتماعي جعل مسارات الدسترة تُعنى، أكثر فأكثر، بالسياسات العامة، وتعود، أكثر فأكثر، إلى الدساتير /البرامج نفسها.
هنا، تحاول الوثائق الدستورية، تحت ضغط زمن الاحتجاج، أن تتقمص جواباً مفترضاً على إشكاليات المجتمع وقضايا المواطنين الاقتصادية والاجتماعية وسؤال "السياسات"، فضلاً عن وظيفتها الأصلية جواباً على قضية السلطة وسؤال "السياسة".
من حيث الديمقراطية، عرفت النقاشات بشأن هندسة السلطات، على عكس ما كان متوقعاً، انتصاراً واضحاً لاختيار راهن على تصحيح "الرئاسوية"، وتقليم مظاهرها "السلطوية"، في مقابل انحسارٍ بٓيٓنٍ للدعوات البرلمانية. وفي لحظات كثيرة، قُدمت مزايا النظام الرئاسي المُعقلن، أَو حتى شبه الرئاسي، ضمانةً مؤسسيةً لتجنب مخاطر الانزلاق "المُمْكن"، والذي قد يحمله الاختيار البرلماني، من حالة الدولة الاستبدادية إلى حالة الدولة الفاشلة.
حجج المدافعين عن تصحيح "الرئاسية العربية"، عوض تبنّي دساتير، تذهب رأساً نحو صيغة برلمانية، تضمنت مقاربة "محافظة"، انطلقت من الإقرار بضعف النسيج الحزبي وهشاشة الثقافة السياسية، الضرورية لنجاح الأنظمة البرلمانية، ثم عرجت على ما قدٓرت أنه حاجة اجتماعية عميقة لدى الشعوب العربية، للتماهي مع قيادة سياسية/ شخصية قوية.
وإذا كانت هذه التعميمات لا تعني أن ثمة فروقاً جوهرية بين التجربتين، المصرية والتونسية، حيث تظل الأخيرة، إلى الآن، بيضة ديك الربيع العربي ومفاجأته الجميلة، أو بين باقي التجارب الأخرى، أو حتى بين دستوري مصر لعامي 2012 و2014، حيث تبدو قراءة الأخير مثيرة للأسئلة، من حيث حجم حضور الجيش في النسق السياسي، وعما إذا كان الأمر يتعلق بدسترة كاملة للدولة العميقة، بعيداً عن روح الربيع العربي.
عموماً، واكبت مسارات الدٓسترة، كذلك، انهيار المثالية الدستورية، المليئة برومانسية الثورة، وحرارة الساحات العامة التي طالما انتظرت من الدساتير أن تكون وثائق تأسيسية، وعقوداً اجتماعية، تطبع اللحظات الكبرى لتحول الأمم، ما أدى، في النهاية، إلى انتصار فكرة الدساتير "التكتيكية " التي تأتي ترجمةً -آنيةً -لموازين القوى المتصارعة، من أجل السلطة في المرحلة المُعقٓدة لما بعد اليوم الأول للثورة.

 

 

2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي