فيروس أخرج الجزائر من "غرفة الإنعاش"

فيروس أخرج الجزائر من "غرفة الإنعاش"

23 ابريل 2020

تعقيم محطة وقوف حافلات في الجزائر العاصمة (20/3/2020/Getty)

+ الخط -
استيقظت الجزائر فجأة، وهي تتصدّر اليوم قائمة الوفيات في الدول العربية نتيجة انتشار فيروس كوفيد - 19، على سؤال جوهري، كيف أنها تمتلك جيشا من أقوى الجيوش العربية والعالمية، ولكن منظومتها الصحية متهالكة؟ وكيف هاجر آلاف الأطباء الجزائريين من بلدهم، وقد أنفقت الدولة على تعليمهم الأموال الطائلة، ليكونوا اليوم على خط الدفاع الأول ضد الوباء في فرنسا ودول أوروبية أخرى، وليس في الجزائر للدفاع عن إخوانهم وأبناء جلدتهم؟
أدرك الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، تبعات الصدمة بشكل واضح، وهو يرث حكم بلد من رئيس معزول، ظل أكثر من سبع سنوات يعالج في مستشفيات أوروبية، ولم يفكر لحظة في بناء مستشفى واحد بمواصفات عالمية، على الأقل له ولعلية القوم. لقد دمر نظام بوتفليقة، الذي رفع شعار "إصلاح المسشفيات"، الأمل في عيون الجزائريين في أن ينالوا الرعاية الصحية التي تحفظ كرامتهم، وها هي النتيجة اليوم تتكلم أمام عيني الرئيس تبون، الذي لم يرث عن العهد البائد سوى مركز واحد للتحاليل هو مركز "باستور" بالعاصمة، قبل أن تضطر ظروف الوباء إلى فتح مراكز وملحقات في ولايات أخرى، ولا يجد في طول الجزائر وعرضها أكثر من 2500 سرير للعناية المركزة، حتى وإن كانت تقارير مختلفة تتحدث عن رقم أقل بكثير من هذا.
لقد تعامل نظام بوتفليقة بوحشية قل مثيلها في العالم مع الأطباء، فلم يكتف بحرمانهم من حقوقهم المادية، حين منحهم رواتب مذلّة لا تتجاوز أحيانا 250 يورو شهريا، وإنما عمد إلى امتهان 
كراماتهم وضربهم في الشوارع بالهراوات كلما خرجوا للمطالبة بحقوقهم المشروعة، بتحسين ظروف العمل، وتوفير الإمكانات لعلاج المرضى، في حين كانت فرنسا تستغل تلك الصور المهينة، وتقدّم عروضها للأطباء الجزائريين. وفي النتيجة تتحدث صحيفة الوطن الجزائرية الناطقة بالفرنسية، عن أكثر من خمسة آلاف من الأطباء الذين حصلوا على شهاداتهم من الجامعات الجزائرية هم اليوم في خط الدفاع الأول يكافحون ضد الوباء في فرنسا، ولكن من دون أن تقوم السلطات الفرنسية بتسوية أوضاعهم. وتتحدث إحصائيات عن وجود أزيد من 15 ألف طبيب جزائري في المجمل، يشكّلون عصب القطاع الصحي الفرنسي حاليا، من دون الحديث عن حوالي مائتي ألف من الكفاءات المختلفة هاجرت من الجزائر خلال سنوات حكم بوتفليقة.
تجسّدت هذه الصورة النمطية للطاقات الطبية الجزائرية "الهاربة" من وضعية البطش المحلي وامتهان الكرامة، قبل أيام، بصورة كاريكاتورية عند زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى مدينة مارسيليا، جنوب فرنسا، للقاء البروفيسور ديدييه راؤول، صاحب دواء هيدروكسي كلوروكين، حيث فوجئ بأن أغلبية الباحثين الذين يعملون مع البروفيسور من جنسيات عربية وأفريقية، وفي مقدمتهم الجزائريون، وهي الصورة المؤلمة التي تناقلها الجزائريون بحسرة كبيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومعهم رجال الدولة الجدد الذين استشعروا فداحة الجُرم الذي مارسه النظام السابق ضد الكفاءات الوطنية، وتحديدا في القطاع الطبي وشبه الطبي. وقد تبدّى هذا الشعور المؤلم في نبرات صوت الرئيس تبون، وهو يتحدث إلى الأطقم الطبية التي تواجه اليوم، بإمكانات متواضعة، جائحة كورونا، عند نزوله بنفسه إلى مراكز صحية في العاصمة للاطلاع على جهود مكافحة الوباء (المرّة الأولى التي ينزل فيها رئيس للجمهورية في زيارة ميدانية لأحد المستشفيات وللصيدلية المركزية ومقر وزارة الصحة)، ومعها كان لزاما استدراك الوضع بما أمكن، عبر حزمة قراراتٍ شجاعةٍ، لاقت ترحيبا وارتياحا واسعين لدى نقابات الصحة في مختلف أفرعها في البلاد.
لم يكن الرئيس الجزائري الجديد، تبون، محظوظا، وهو يفتتح عهدته الرئاسية بكارثتين كبيرتين، انهيار أسعار النفط التي تشكل 95% من صادرات البلاد، وتفشّي فيروس كورونا (عكس المخلوع بوتفليقة الذي بدأ عهده العام 1999 مرتاحا، بفضل ارتفاع أسعار النفط حينها إلى أكثر من مائة دولار للبرميل)، إلا أن تبون مع ذلك قرّر، وهو يواجه هذه المفارقات المذهلة في خضم انتشار الوباء، إعادة النظر في المنظومة الصحية الجزائرية بالكامل، مع إعادة هيكلة شاملة لهذا القطاع الحسّاس باستحداث وكالة وطنية للأمن الصحي، وتأسيس منظومة صحية وقائية تكون ثورة في القطاع بعد أزمة كورونا، مع إعادة النظر في سلم الأجور بالنسبة للأطباء، بحيث تتضاعف رواتبهم، خصوصا في المناطق الصحراوية والنائية، وبما يحفظ كرامة الطبيب الجزائري الذي ظهر اليوم بتعبير الرئيس نفسه في منزلة المجاهد في سبيل الله، ومن يتوفى منهم فهو شهيد لا يقل قيمة عن شهداء ثورة أول نوفمبر/ تشرين الثاني العظيمة ضد الاستعمار الفرنسي.
ولعله الفيروس (كوفيد - 19)، الذي كان قطاع الصحة الجزائري ينتظره من زمان، لكي ينتبه 
المسؤولون إلى حجم الهاوية التي سقط فيها، بعدما استحلت دولة الاستقلال، بكل أسف، أن تتقبل ببساطة لجوء الرؤساء والوزراء وكبار القوم للعلاج في مستشفيات أوروبا (فرنسا خصوصا)، بينما يموت الشعب على بوابات الاستعجالات لمستشفياتٍ لا تحمل من معاني الاستشفاء إلا الاسم والرسم، فقد أوجد هذا الفيروس المستجد، حقيقة، فرصة تاريخية لإعادة النظر في كل شيء، وليس في قطاع الصحة وحده، فتحرّكت آلة الإبداع المجتمعي من تلقاء نفسها، حين أجهز الوباء على البيروقراطية الرسمية، لتبدع اختراعاتٍ علمية مذهلة، بعضها يخصّ إنتاج أجهزة التنفس الاصطناعي، ومعابر التعقيم، وأخرى مرتبطة بالأرضيات الرقمية التي تتابع أخبار الوباء أولا بأول وغيرها، ما أجبر صانع القرار في الجزائر على التسليم لأول مرة ربما بأن ما تحويه أرض الجزائر من خيراتٍ مادية، وطاقات بشرية، كفيل بأن يقلب معادلة التخلف القائمة، لتصبح في مصافّ الدول المتطوّرة، إذا ما خلصت النيات وتمت إتاحة الفرصة لجميع الطاقات والكفاءات للبروز.
أدرك الرئيس عبد المجيد تبون هذه الحقيقة بجلاء، وهو يؤكّد، في آخر اجتماع لمجلس الوزراء، ضرورة الانطلاق من هذا الواقع المؤلم في التقييم، من أجل الخروج بتصور مختلف، معترفا صراحة بأن الجزائر، بطاقاتها الهائلة، لم تنجح في صناعة تلفاز أو ثلاجة بنسبة 100%، قبل أن يقرّر، تحت وطأة جائحة كورونا وانهيار أسعار النفط، اتخاذ إجراءات عملية للتعجيل بتطبيق نموذج اقتصادي جديد، يقوم على تنويع النمو واقتصاد المعرفة، مشيرا إلى أن البلاد تحوي "عبقرية جزائرية خلاقة"، ينبغي استغلالها إلى أقصى الحدود. تلك العبقرية التي ظلت عقودا طويلة تهرب من البلاد ضمن قوافل "الأدمغة المهاجرة"، حان الوقت لكي تنتبه إلى حق الوطن عليها بأن تخرجه من تخلفه الراهن، وإلى حقها في هذا الوطن بأن تعيش بكرامةٍ ضمن وسط جالب للكفاءات لا طارد لها.. والأمل أن تعيد صدمة هذا الفيروس، الخطير بالفعل، إلى العقل السلطوي الجزائري انتباهه، ليس فقط إلى واقع قطاع الصحة المتهالك، وتصدر البلاد قائمة الوفيات في الدول العربية، وإنما إلى كل القطاعات الأخرى، وهو ما أشار إليه بوضوح رئيس حركة البناء الوطني، عبد القادر بن قرينة، حين قال إن "الجزائر ما بعد الأزمة ستدخل إلى وضع جديد بتحدّيات جديدة وبدستور جديد وبمؤسسات جديدة وبإجابات جديدة عن أسئلة التنمية والاقتصاد والعمل والإواطنة، بل وحتى التحالفات الخارجية".
في المحصلة، قد يضطر الجزائريون يوما أن يقدموا شكرهم الخالص لفيروس كورونا الذي يكون قد خلّصهم من فيروسات أخطر، في مقدمتها فيروسات الرداءة والنهب وسوء التسيير وامتهان كرامة الانسان، وكان سببا في علاج الصحة المريضة عندهم، ومن يدري وربما في إخراج الجزائر بأكملها من غرفة الإنعاش الكبيرة التي وجدت فيها منذ عقود طويلة.
133E9202-5916-4876-BAE6-293DD70280C0
حسان زهار

كاتب وإعلامي جزائري، تولى رئاسة تحرير صحف جزائرية يومية وأسبوعية