عين الحلوة في قلب الجحيم

عين الحلوة في قلب الجحيم

25 اغسطس 2017
+ الخط -
تصرخ أم محمد، جارتنا في مخيم عين الحلوة، في فيديو مدته أقل من دقيقة: ما عاد بدنا ياهم هون (لا نريدهم هنا بيننا). كانت غاضبة وحزينة وخائفة على أطفالها وأحفادها. وكانت يائسة وكسيرة، لأنها وجميع ساكني المخيم الأكبر بين مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، والأكثر كثافة سكانية، يعانون منذ سنوات طويلة من ترك مرجعيتهم، منظمة التحرير الفلسطينية، وإهمالها لهم. تُركوا بلا سند ولا دعم. وفي الوقت الذي تسيج الدولة اللبنانية جغرافية المخيم بجدران العزل والخنق والأشرطة الشائكة وأبراج المراقبة وحواجز الجيش على كل مداخل المخيم ومخارجه، حتى الزواريب الضيقة التي بالكاد تتسع لمرور شخص بمفرده لم يوفرها الجيش اللبناني من نقاط التفتيش والتحقق من هويّات المارة.
على مدخل الزاروب المؤدي إلى حارتنا، وفي ساعة متأخرة من الليل، كنت عائداً قبل سنوات من بيروت إلى بيتنا، ولم أكن أحمل سوى حقيبة يد صغيرة، أضع فيها أوراقي، أوقفني جندي لبناني، وأنا أهم بفتح البوابة الحديدية على مدخل الزاروب. كنت أعتقد أنهم لن يوقفوني في هذه الساعة. طلب الجندي أوراقي الثبوتية فشعرت بإهانة، وقلت له أنني أسكن هنا وذاهب إلى بيتي. ثم أضفت: هل تشاهد التلفزيون؟ كان الجندي شاباً في بداية العشرينات، فأجاب مندهشاً: نعم. فأضفت: وهل شاهدت في الأخبار الجدار العازل في الضفة الغربية؟ وهل شاهدت البوابات الإلكترونية التي يمر عبرها الفلسطينيون تحت الاحتلال الإسرائيلي؟ ارتبك الجندي خجلاً، وقال لي: الله معك. ... لكني تعمدت أن أقدّم له هويتي الزرقاء للاجئين الفلسطينيين في لبنان، فرفض تناولها، وأصرّ على أن أتابع سيري من غير الاطلاع على هويتي.
كانت البوابة الحديدية مقفلةً، ففتحتها ودلفت إلى الزاروب المؤدي إلى حارتنا. ما أرعبني أنني بعد الدخول إلى الزاروب، أقفلت البوابة ورائي. وأنا أمشي في الزاروب المعتم، تساءلت إن كنت أقفلت البوابة لأحمي نفسي في القوقعة التي حُشرت فيها، في محاولةٍ للوصول إلى ثمالة الإحساس باليأس والعزلة الذي يتسلل إلى أرواح الناس الذين تفرض عليهم العزلة، بما تعنيه من النبذ والاختلاف وصفات الأوبئة، أم أنني أريد أن أحمي روح ذلك الجندي الشاب من خجل التشابه، في مقارنةٍ مع ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي، وقد أوحى لي خجله بأنه شقيقٌ لروحي المحاصرة أينما ذهبت.
ترعرع اليوم الجدار العازل حول المخيم وتعملق، وارتفعت أبراج المراقبة، وتكثفت الحواجز على مداخل الزواريب، وكثر عدد الدبابات. وفي الوقت نفسه، سهّلت قوى كثيرة خارج المخيم الحصار الداخلي الأصعب، والأكثر توحشاً. فعلى الرغم من كل تلك الإجراءات حوله، امتلأ المخيم بقوى وعناصر تحمل رايات التطرّف الديني، وصار ملجأً للهاربين، زعماً، من القانون في لبنان. وفي الوقت الذي صار فيه اللاجئون ينبذون السلاح، تسرّب السلاح إلى المخيم بكثافة واضحة، وكأنه لا دور لتلك الأبراج والحواجز والجدران والدبابات والجنود حول المخيم سوى إذلال الناس، وتهيئتهم ليوم القيامة، عندما يقتلع المخيم من جذوره، ويهجّر ساكنوه، وتأتي المنظمات الإنسانية العطوفة لإعادة الإعمار، بعد كسر كرامة الناس، وتطويع أرواحهم.
من له المصلحة في كل ما يجري في عين الحلوة؟ ليس ما يجري الآن وحسب، ولا أقصد القتال الدائر منذ أيام. من له مصلحة في تدمير أرواح اللاجئين، سكان المخيم، وانتظامهم في مشروع لبناني إقليمي، لا مكان فيه لما هو خارج التجانس الطائفي الذي أعلنه بشار الأسد بفخر واعتزاز.
لا نستطيع أن نعزل ما يجري في عين الحلوة عما يجري في معارك الجرود، وعما يريده حزب الله الذي استطاع السيطرة على لبنان، في مسعاه إلى أن يكمل ما أعلن عنه حليفه الأسد من تجانس طائفي، وتطويع للطوائف المتمردة تحت هيمنته.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.