عهد التميمي إلى الحرية... صفعة لا تزال تحرج إسرائيل

رام الله

نائلة خليل

نائلة خليل (فيسبوك)
نائلة خليل
صحافية فلسطينية، مراسلة ومديرة مكتب موقع وصحيفة "العربي الجديد" في الضفة الغربية.
29 يوليو 2018
55A1F7E8-0F6C-45D6-9B2D-35BF773D81F5
+ الخط -
خرجت الأم ناريمان وابنتها عهد التميمي، اليوم الأحد، على إلى الحرية، بعد ثمانية أشهر من الاعتقال في سجون الاحتلال الإسرائيلي. ذلك الاعتقال الذي حوّل الأم وابنتها إلى رمزين من رموز المقاومة السلمية الفلسطينية، وسلط الضوء على الابنة التي اضطر الاحتلال إلى خوض حرب إعلامية خاسرة ضدها، رغم أنه يقيدها بالسلاسل. ولم يكن يخطر في بال الاحتلال الإسرائيلي أن اعتقال فتاة من مواليد العام 2001، في ليلة باردة من ليالي ديسمبر/ كانون الأول العام الماضي، سيدخل إسرائيل في حرب إعلامية وسيحوّل قادة الاحتلال إلى مروجي شائعات وصلت إلى حد القول إن "هذه العائلة مُختلقة، وعائلة من الممثلين الذين جاؤوا من البوسنة".

دولة الاحتلال الإسرائيلي لم تحتمل كل التعاطف مع فتاة فلسطينية شقراء بعيون زرقاء، رصدتها الكاميرات وهي تصفع جندياً إسرائيلياً جاء ليقتحم منزلها فجراً، فكان عقابها تقييد يديها ورجليها بالسلاسل وإخضاعها لمحكمة عسكرية إسرائيلية قاسية، بل والأصعب من ذلك اعتقال والدتها صباح اليوم التالي لاعتقال الابنة، حين كانت في طريقها للسؤال عن مصير ابنتها المعتقلة. في سجن هشارون أمضت عهد وأمها ثمانية أشهر من السجن الفعلي، لكن كل واحدة منهما في غرفة منفصلة، ولم تلتقيا إلا في وقت ما يُعرف بـ"الفورة"، وهي الاستراحة اليومية التي تخرج فيها كل الأسيرات للسير في ساحة مسقوفة لنحو أقل من ساعة.

وبعد اعتقالها باتت عهد واحدة من رموز المقاومة الشعبية الفلسطينية. وهذه الرمزية ليست وليدة حادثة الاعتقال فقط، بل إن تكاتف مجموعة من الظروف إلى جانب التوقيت جعل نجم هذه الفتاة يلمع أكثر من غيرها. فوالد عهد أسير محرر اعتقل أكثر من مرة، وعمتها الوحيدة شهيدة، أما والدتها ناريمان فاعتقلت خمس مرات، والاعتقال الأخير أطول اعتقال لها، فيما أصيبت أكثر من مرة بالرصاص المطاطي والحي، واستشهد شقيق الأم في أحد المسيرات المقاومة للاستيطان في قريتهم النبي صالح. وتشارك عهد وعائلتها بشكل منتظم في المسيرات الأسبوعية التي تنظمها القرية منذ العام 2009 ضد الاستيلاء على أراضيهم لصالح مستوطنات "حلميش" و"نبي تسوف" و"عطروت"، إذ صادر الاحتلال نحو 1700 دونم من أراضي القرية البالغة مساحتها نحو 5000 دونم لصالح بناء المستوطنات.

ووجه عهد وأهل قريتها، الذين يتميز معظمهم ببشرتهم البيضاء والعيون الملونة، ليس غريباً على الكاميرات التي لطالما رصدتها في مراحل طفولتها ومراهقتها وهي تشتبك مع جنود الاحتلال الإسرائيلي. فتارة تهجم على جندي إسرائيلي هي وأطفال القرية لتخلص شقيقها من قبضة جندي أطبق على رقبته وهو لا يتجاوز العشر سنوات، ومرة أخرى ترصدها الكاميرا وهي تحاول منع اعتقال والدتها ناريمان. وتتحول الفتاة الشرسة، التي تدفع الجنود بعيداً عن أمها بقبضتها الصغيرة إلى طفلة باكية وهي تركض عشرات الأمتار وراء المركبة العسكرية التي خطفت أمها واقتادتها معتقلة بعيداً عن القرية.

وبعيداً عن الاشتباك المباشر على أراضي قرية النبي صالح، جابت عهد وعائلتها دولاً كثيرة في العالم للتحدث عن عدالة القضية الفلسطينية ومعاناة الفلسطينيين من الاستيطان والاحتلال. وتأخذ الطفلة، رغم حداثة سنها، زمام الحديث وإلقاء الكلمات، كما حدث في جنوب لبنان وتركيا والأردن ودول عديدة، كان آخرها مؤتمر "تألق المقاومة" في جنوب أفريقيا الذي نظم في أغسطس/ آب الماضي. فبعد عرض العديد من الفيديوهات حول معاناة الفلسطينيين، وتحديداً لأهالي النبي صالح من الاستيطان، بكى الجمهور، فوقفت عهد تخاطبهم قائلة "شكراً لدموعكم... عنا دموع كثير بسبب قنابل الغاز، أنا لا أحب نظرات الشفقة، إحنا مش ضحايا بل مقاتلين من أجل الحرية".

وجودها الدائم مع عائلتها في الميدان، عبر السنوات الماضية في المقاومة الشعبية السلمية التي تنتهجها القرية، وعدم انتمائها لأي فصيل فلسطيني، وتلقف الإعلام العالمي لاعتقال الفتاة، ذات الملامح الأوروبية، كما سمّتها الصحافة الأجنبية، وكأنه من المستبعد لفلسطيني أن يكون ذا ملامح بيضاء وعيون ملونة، ووحشية التعامل الإسرائيلي مع العائلة، كلها عوامل جعلت اعتقال الفتاة التميمي حدثاً كبيراً وأعطاها رمزية نضالية وعدالة، وضعت إسرائيل في مكان المدافع والكذاب، الذي استطاع بعد كل كذبة أن يرسخ رمزية عهد الأسيرة بما تمثله من عدالة لكل قضايا الأسرى والأسيرات الفلسطينيين. واعتبر مايكل أورون، الوزير الإسرائيلي والمسؤول عن الدبلوماسية في مكتب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وسفير إسرائيل السابق لدى الولايات المتحدة، أن عائلة التميمي "ليست حقيقة، وتم تركيبها بشكل خاص في خدمة الدعاية الفلسطينية". وحسب ما ذكرت صحيفة "هآرتس" بعد اعتقال عهد، فإن كذبة أورون كانت موجهة للرأي العام الأوروبي الغاضب الذي أنكر على إسرائيل اعتقال فتاة بملامح أوروبية، فأراد أورون أن يهدئهم بكذبة لا تقل عنصرية عن تضامنهم مع من يشبه ملامحهم، لكن حتى كذبته جعلت وجه إسرائيل أبشع.

ويقول باسم التميمي، والد عهد: "أورون الصهيوني قال إننا عائلة مختلقة، وحضرنا من البوسنة لنقوم بعمل دعائي. أنا مستعد لعمل اختبار الحمض النووي وعائلتي لنثبت أننا وأجدادنا على هذه الأرض قبل أن يتصهين أورون القادم من الولايات المتحدة ليسرق أرضنا". وأضاف "نحن لا نستخدم أولادنا، وهذه نظرة عنصرية تتهمنا بأننا بلا إحساس، وكأن هناك مكاناً آمناً في فلسطين؟ هذا السؤال المزعج قد يكون عربياً أحياناً، وهذا سؤال من يعيش الوهم أن إسرائيل بحاجة إلى تبرير لتعتقل وتقتل وأن الصفعة هي التي تسببت باعتقال عهد وأمها. على هؤلاء أن يجيبوا على سؤال، هل صفعت عائلة دوابشة أي جندي لتموت حرقاً على يد المستوطنين؟ الاحتلال ليس بحاجة لتبرير حتى يعتقل ويدمر ويقتل". وأمضى الأب الأشهر الماضية يحافظ قدر الإمكان على أسرة مزقها الاحتلال، إذ إن عهد والام معتقلتان منذ ديسمبر/ كانون الأول 2017، والابن الأكبر وعد (20 سنة)، معتقل منذ ثلاثة أشهر، فيما بقي ثلاثة في المنزل، الأب ومحمد (12 سنة)، وسلام (14 سنة). "وضع صعب وغريب، لكن تجاوزناه"، كما يقول الأب. وزاد حضور السفراء والقناصل الأوروبيين لمحاكمات عهد وأمها من إحراج إسرائيل، إذ كانت عهد تحضر بشعرها الأشقر الجامح وهي تبتسم وتودع أقاربها الذين حضروا إلى المحكمة بابتسامة طفولية مشاكسة، وهي ترد على أسئلة الصحافيين حول محاكمتها قائلة "لا عدالة تحت الاحتلال، وإحنا (نحن) بمحكمة غير شرعية... باي... بحبكم". أما والدتها، التي حكمت في اليوم ذاته 21 مارس/ آذار، فكانت تتلقى التهاني بعيد الأم في المحكمة من النشطاء والأقارب بابتسامة لا تقل مرحاً وتحدياً عن ابنتها.

وعندما صفعت عهد الجندي، في ديسمبر الماضي، كانت تعبر عن اشتباك وتحد، لكن التحدي ذاته تحول إلى صمت طيلة فترة التحقيق معها التي استمرت 12 يوماً، تعرضت فيها لتحرش لفظي من المحقق الذي قال لها إن مكانها يجب أن يكون على البحر حيث ستحول الشمس بشرتها البيضاء إلى حمراء كما هو الأمر مع الجميلات مثلها من ذوات البشرة البيضاء، حسب الفيديو المنشور لهذا الجزء من التحقيق على "يوتيوب" في 9 إبريل/ نيسان 2018. والرسالة الوحيدة التي استطاعت المحامية نقلها بعد اعتقال عهد بعدة أيام، كانت عبارة عن جمل صغيرة تشبه البرقيات، وهي حرفياً حسب ما حفظته المحامية ونقلته للأب التميمي "ما حصل كان متوقعاً. عندما أتذكر لماذا دخلت السجن ترتفع معنوياتي. ما دخلت السجن لأجله يستحق. سأبقى قوية كما رباني أبي. تحملنا الصعب ونتحمل الأصعب. تفاعل الناس مع قضيتي رفع معنوياتي. أرجو أن تتفاعلوا مع كل قضايا الأسيرات كما تتفاعلوا مع قضيتي".

ورغم فرح الأب بقرار الإفراج عن عهد وأمها، إلا أنه يحمل هماً من نوع آخر، هو الحفاظ على النموذج الذي رسخته عهد، ويقول "عهد الفكرة والرمز، هي حاجة للمجتمع الفلسطيني، وتلقف المجتمع لها بكل هذا الحب دليل على حاجته لها ولجيلها، أي جيل ما بعد الفصائلية". ويضيف "هذا النموذج سيكون مستهدفاً، والمجتمع الفلسطيني لديه رصيد كبير من الخيبات". ويخشى التميمي من محاولة كسر نموذج عهد عبر الاحتواء، موضحاً أن عهد نموذج ليس له حاضنة بعد مثل غالبية جيلها. ويستشهد الأب بأحد أبيات مظفر النواب، قائلاً "احذر أن يقبلك المنقرضون فتصبح منقرضاً". ويضيف "كلما زاد الوعي زاد القلق". ورغم أن التميمي ينتمي إلى حركة "فتح"، لكنه سيستغرب ويحزن إن قررت عهد يوماً الانتماء إلى أي فصيل فلسطيني. وتختلط الفرحة بالتوتر والقلق الذي تحمله الأيام المقبلة، لكن الأب لديه محاذير عامة للمرحلة المقبلة، أهمها "عدم استعداء أي أحد، والمحافظة على المسافة نفسها من الجميع، وعدم الذهاب لأي مغامرة سياسية". وبتوتر الأب الذي ينتظر مرور الساعات لاستقبال ابنته وزوجته، يقول "هناك الكثير من الأمور لم تحسم بعد، منها أين ستدرس عهد التي قدمت امتحان التوجيهي في المعتقل. هل تدرس في جامعة بيرزيت أم في بريطانيا حسب المنحة المقدمة لها من اليونيسف لدراسة القانون الدولي الذي تحلم به؟ لا توجد إجابات لكل الأسئلة الآن، ولا مضاد حيوياً للقلق".

ذات صلة

الصورة
أطفال وأمطار في مخيم في دير البلح - وسط قطاع غزة - 24 نوفمبر 2024 (علي جاد الله/ الأناضول)

مجتمع

أفاد جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة بأنّ خيام النازحين الفلسطينيين تعرّضت لأضرار جسيمة من جرّاء الأمطار وغرقت في مياهها، الأمر الذي أدّى إلى تفاقم معاناتهم.
الصورة
صندوقة خاض تجربة مريرة بسجون الاحتلال في مقتبل العُمر (العربي الجديد/Getty)

رياضة

روى المدرب الفلسطيني أيمن صندوقة، صاحب الأكاديمية الرياضية التي دمرها الاحتلال في منطقة شمال غرب القدس، لـ "العربي الجديد"، تجربته القاسية مع حلمه.

الصورة
الطبيب الأميركي طلال علي خان (الأناضول)

مجتمع

أعلن الطبيب الأميركي من أصول باكستانية طلال علي خان، الذي عمل لفترة في قطاع غزة في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية، أن نظرته للحياة تغيرت جراء ما شاهده من أهوال
الصورة
جنود الاحتلال قرب مقر أونروا في غزة بعد إخلائه، 8 فبراير 2024 (فرانس برس)

سياسة

أقر الكنيست الإسرائيلي، مساء اليوم الاثنين، تشريعاً يحظر عمر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (أونروا) داخل الأراضي المحتلة.
المساهمون