عن فندق الوطن وحلمة الأذن والشيطان جميل راتب!

عن فندق الوطن وحلمة الأذن والشيطان جميل راتب!

23 سبتمبر 2018
+ الخط -
ـ حين تدرك أنه لن يفرق مع أغلب أبناء شعبك كونك "killer"، لن تنزعج كثيراً إذا وصفك أحد بأنك "fucking". 

ـ ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بعزرائيل أو إسرافيل، أيهما أقرب. 

ـ لا تثق أبداً في حكمة من يردد بثقة أن "عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء"، فلو كانت لديه أدنى فطنة تذكر، لأدرك عبثية ما يقوله في عصر الساعات الديجيتال. 


ـ عزيزي المواطن "الشريف": يسعدني تذكيرك المستمر لي بأن "الوطن ليس فندقاً نغادره حين تسوء الخدمة"، وكنت أتمنى أن تدرك أن مصلحتك ومصلحة أولادك وأحفادك مرتبطة بألا تعطي صوتك على بياض لمن يعتبرون الوطن "معتقلاً ننتقل فيه إلى الحبس الانفرادي كلما اعترضنا على سوء الخدمة أو اقترحنا تحسينها". 

ـ كل مقاييس درجات الحرارة باختلافاتها وتقنيات عملها وما يرتبط بها من أجهزة وآليات وتطبيقات، لا يمكن أن توصل لك دقة التشخيص الموجودة في عبارات جامعة مانعة مثل: "الجو تحفة ـ كان حلو بس قَلَب ـ ملزّق حبتين ـ جو عَيا ـ جو زي الخرا". 

ـ لا يمكن أن تغطي الشمس بغربال، لكن يمكن أن تقنع من يدمنون الاستشهاد بعبارة "لا يمكن أن تغطي الشمس بغربال"، أنها ليست ذات قيمة تذكر في تغيير الواقع، لأن من يمتلك السلطة والنفوذ يستطيع إجبار الناس على أن يستغنوا عن الشمس. 

ـ يعلم العارفون بحقائق الأشياء أن قبلة الأذن أشد تأثيراً في الوصال من قبلة الشفايف، ولذلك يبقى السؤال: لماذا لا تضع المرأة "الروج" في حلمة أذنيها كما تضعه في شفتيها؟ 

ـ أغمض عينيك وتخيل معي، كم قلماً ستأخذه على قفاك لو خرجت إلى الشارع الآن وغنيت بصوت عالٍ قائلاً: "دوّر ع الناس هتلاقي الخير في الناس دوّر ع الناس". 


ـ بعد رحيل الفنان القدير جميل راتب الذي أبدع في عدد من الأدوار المتنوعة بقدر إمكانه، وقاوم قدرة السينمائيين المصريين المدهشة على تنميط وتعليب أي فنان موهوب واضطراره إلى أن يشتغل "بالشويتين بتاعه" لكي يتمكن من الاستمرار حتى يتم الاستغناء عنه، كتب الصديق محمد نعيم عن التأثير الذي أحدثه جميل راتب في طفولة جيلنا البائسة، من خلال لعبه لدور إبليس في مسلسل (الكعبة المشرفة)، لدرجة جعلت جميل راتب حاضراً على الدوام في أحلام الطفولة، بصوته المميز وملامحه الحادة التي زادها الماكياج البشع الكاريكاتيري حدة. 



كان المسلسل الذي عرض في عام 1981 شديد الرداءة في الكتابة والتنفيذ والإخراج، لدرجة جعلت الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين ينقده بحدة في عموده اليومي الشهير في الأهرام، ولم يكن معروفاً عن أحمد بهاء الدين الاهتمام بنقد الأعمال الفنية أصلاً، فضلاً عن نقدها بغضب، وحين أرسلت إليه كاتبة المسلسل أمينة الصاوي تعاتبه بكلمات من نوعية "رفقاً بنا وحنانيك يا سيدي"، واصل الرجل من شدة غيظه هجومه على المسلسل الذي تحول من مسلسل ديني جاد إلى مسلسل كوميدي مثير للسخرية، وهي سخرية تنصب في الأساس على مضمون المسلسل وطريقة تناوله الدرامي، ثم تمتد إلى طريقة تنفيذ "خِدع" المسلسل ومؤثراته الخاصة التي قام بها مخرج الفوازير ورائدها الحاج فهمي عبد الحميد، الذي يبدو أن ضعف الميزانية لم يسعفه لتقديم مشاهد حتى كالتي كان يقدمها في الفوازير فتنال الرضا الجماهيري، ستصاب بكريزة ضحك وأنت تتفرج على المشاهد التي يطير فيها الشيطان جميل راتب مع ابنته حَبَب التي لعبت دورها تيسير فهمي، خصوصاً لو تصورتهما نائمين على مرتبة عُهدة خارجة من مخازن التلفزيون، يقومان بتحريك أيديهما بصورة عبثية، ليحولهما فهمي عبد الحميد بعد ذلك إلى شيطانين رجيمين يحلقان فوق الأرض. 




في الحلقة الأخيرة من المسلسل والتي التي لم أندم حين أخذت بنصيحة محمد نعيم وأعدت مشاهدتها، بعد أن صارت متاحة على قناة ماسبيرو زمان في يوتيوب، يقوم الشيطان في الدقيقة 32 تقريباً من الحلقة بجولة تفقدية مع ابنته على كوكب الأرض لمتابعة ما يجري فيه من تطورات، وحين تقول له ابنته تيسير فهمي إنها تعبت من الطيران، يحدثها جميل راتب من الوضع طائراً عن سعادته كشيطان بقيام أبنائه بإقناع البشر بنشر الحروب والخراب في كل مكان، وهنا يقرر المخرج أحمد طنطاوي الذي كان متخصصاً في الأعمال الدينية والتاريخية، وله فيها للأمانة أعمال لا بأس بها بمقاييس زمنها، أن يقوم بمضاعفة التأثير الدرامي لعبارات الشيطان، بإدخال لقطات أرشيفية للحروب، ما يبدو فإنه تحت ضغط العمل من أجل اللحاق بشهر رمضان، قرر المخرج أن يوكل لمساعده تحضير عدة لقطات للحروب، فقام بتجميع لقطات بعضها من المشاهد التي ارتبطت بحرب أكتوبر، والتي كان قد تم تصويرها عقب العبور، واستخدمت في العديد من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي تحدثت عن العبور، ليبدو ترتيب اللقطات بعد حديث جميل راتب، وكأن العبور كان جزءاً من الخطة الشيطانية لتدمير البشرية، ولولا أن تلك اللقطات أعقبت بأخرى لقصف سفن حربية وغواصات، لربما تم تقديم فريق الإخراج للمحاكمة العسكرية. 



في نهاية الحلقة الختامية للمسلسل قررت المؤلفة أمينة الصاوي أن تسجل هزيمة الشيطان الكاملة، بفضل توسع المد الإسلامي وقيام الحكومة السعودية بتوسيع المسجد الحرام، وهو ما أدى إلى قهر الشيطان وضربه في أعز ما يملك، وهو ابنته التي عرفت طريق الهداية، والذي كانت قد سبقتها للسير فيه أمها لظى التي لعبت دورها القديرة محسنة توفيق، والتي صممت بمبادرة شخصية على ما يبدو أن تقدم صورة منفتحة للشيطانة حين تهتدي، فلم ترتد الحجاب بالكامل، واستبدلت ملابسها إلى اللون الأبيض، لون الهداية المفضل في المسلسلات الدينية، تاركة خصلات شعرها الذهبي كما هي، أما ابنتها حبب فقد قررت بعد الهداية أن ترتدي الحجاب الأبيض الكامل، لتطير مع أمها في فضاء فهمي عبد الحميد، وهما ترددان بعض الأدعية التي ينتهي بها المسلسل.


في ظل هراء كهذا استطاع جميل راتب ببراعة ـ وكعادته في كثير من الأدوار التي لا يساعده فيها النص والإخراج ـ أن ينتزع لنفسه مساحة للعب الفني الممتع، مقرراً تأدية دوره بجدية شديدة، وأظنه استدعى خبرته في لعب أدوار جادة في مسرحيات هزلية مع فرقة الكوميدي فرانسيز التي ارتبط بها لفترة، فنجح بتلك الروح في أن يصنع لشخصية إبليس ذلك النجاح الذي تفوق به على محاولة يوسف وهبي في نفس الإطار، برغم الماكياج الأخضر الزرعي الذي تم صبغ وجهه به، والذي كانت درجة اخضراره تتغير بحسب الإضاءة من مشهد لآخر. 


للتأكيد على ذلك التأثير، حكيت لمحمد نعيم عن موقف حدث بعد نزول المرحوم جميل راتب للمشاركة في ثورة يناير، وصادف أن تم التقاط صورة له في إحدى المظاهرات التي سبقت خلع مبارك بيومين، وهو يسير جنباً إلى جنب مع القديرة محسنة توفيق متعها الله بالصحة والعافية، وكانت تيسير فهمي بالطبع قد شاركت في الثورة منذ أيامها الأولى، لم أكن قد علمت بنزول جميل راتب إلى الميدان لأنني كنت أعرف أنه مقيم في فرنسا منذ أن اصيب بوعكة صحية، وكان وقتها قد تجاوز الثمانين من عمره، وكنت في نفس ذلك اليوم أشارك في مسيرة لنقابة السينمائيين، وحين اقتربنا من التحرير التقيت مواطناً لا أعرفه على مدخل ميدان طلعت حرب، قال لي بابتسامة عريضة: "هو مش هيمشي بقى مبارك ابن (..) ده إبليس ومراته وبنته نزلوا ضده"، ولم أفهم قصده إلا حين شرح لي أن إبليس ولظى وحبب، أو جميل ومحسنة وتيسير شاركوا في المظاهرات المطالبة بخلع مبارك الذي لا يمكن أن يستمر بعد أن تخلى الشيطان عنه، وهو ما يؤكد التأثير المدهش لجميل راتب حيث استطاع برغم وعيه الكامل برداءة كل ما حوله، أن يصنع من الفسيخ المسموم شيئاً ما قد لا يكون "شربات" بالضرورة، لكنه يظل صالحاً للبقاء في الذاكرة كل هذه السنين.  



للأسف لم تأخذ المسلسلات الدينية ـ خصوصاً في فترتي السبعينات والثمانينات حقها ـ من الدراسة التحليلية في حدود متابعتي، برغم أنها كانت شديدة النجاح والتأثير على الملايين من أجيال مختلفة، ليس فقط لأنه لم يكن متاحاً غيرها، ولكن لأنها ساهمت في تكريس مفاهيم خاصة عن العالم وما يجري فيه من صراع بين الخير والشر والحق والباطل، بالطبع ليس هذا أوان الحديث التفصيلي عن تلك المسلسلات التي كان بعضها جيداً مثل المسلسلات التي كتبها عبد الفتاح مصطفى وأحمد رائف، في حين جاءت نتائج بعضها كارثية مثل أجزاء مسلسل (القضاء في الإسلام) التي استمر إنتاجها حتى النصف الأول من التسعينات على ما أتذكر، والتي كتبت عنها عام 96 مقالاً قصيراً بعنوان (القضاء على الإسلام الجزء السادس)، أثار غضب البعض الذين لم يدركوا أن المقصود مما كتبته كان قدرة التنفيذ الرديء لتلك المسلسلات على دفع المشاهدين بعيداً عنها، مما دفع مسئولي التلفزيون إلى تأخيرها نحو ساعات المشاهدة الميتة، بعد أن كانت تعرض من قبل في مواعيد متميزة، وأعتقد أنها تسببت في نفور جماعي من كل ما له علاقة بالتاريخ، حتى استعادت الدراما السورية بتميزها في مجال الدراما التاريخية كثيراً من المشاهدين للإقبال على هذا النوع الدرامي المهم. 


بالطبع، لا تصلح مساحة متعجلة كهذه لإصدار أحكام عامة على المسلسلات الدرامية الدينية التي تم إنتاجها في عقود السبعينات والثمانينات والنصف الأول من التسعينات، لكنني أتمنى أن يلتفت أحد الباحثين إلى دراستها وتتبع تأثيراتها الفكرية والعقلية والنفسية على الأجيال التي ارتبطت بها طوعاً أو في الغالب كرهاً، وإذا ظننت أنني أبالغ حين أتحدث عن التأثيرات النفسية، فدعني أقل لك أن أداء جميل راتب لشخصية إبليس في مسلسل (الكعبة المشرفة) والذي جعل محمد نعيم الطفل القاطن بمساكن الحي السابع بمدينة نصر يدخل معركة مع الشيطان في أحلامه، تنتهي بالشيطان وقد أكل علقة موت، هو ذاته الذي جعلني أنا الطفل القاطن في محرم بيه أطرح وقتها تساؤلاً وجودياً مفاده "أين يتبول الشيطان"، ولاحظ أنني لم أسأل: هل يتبول الشيطان؟ لأنني افترضت أنه طالما كان الشيطان يتحدث مثلنا وله حياة أسرية لا تخلو من المشاكل الزوجية، لكنه يقيم دائماً في الكهوف الجبلية القريبة من الصحراء، فمن المنطقي إذن طرح سؤال عن المكان الذي يتبول فيه الشيطان. 

بالطبع انتهزت الأسرة فرصة سؤالي الطائش لفرض المزيد من الانضباط الأخلاقي، عبر الإجابة الشهيرة والموحدة: "الشيطان بيعمل بيبّي في بُقّك لما تتثاءب من غير ما تقفله، وفي طبقك لما تاكل من غير ما تقول بسم الله"، وهي إجابة لولا قدرة جميل راتب على الإقناع، لما ظللت على مدى سنين طويلة كلما تثاءبت، ترى جميل راتب بماكياجه الإبليسي المخيف وهو يستعد للتبول في فمك، فتقوم بسد فمك بيدك على الفور، مستعيذاً بالله من الشيطان الرجيم.  

دلالات

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.