عن البطريركية السياسية في تونس

عن البطريركية السياسية في تونس

28 يوليو 2018

السبسي.. سليل عائلة قريبة دائما من مراكز القرار (13/3/2018/الأناضول)

+ الخط -
تحيل البطريركية، أو الأب الرئيس، أو الأبوية السياسية، وفق الإتيمولوجيا اليونانية القديمة، أنثروبولوجيًا وتاريخيًا، إلى تولي كبار السن من الذكور السلطة والحكم في العائلة، لكن المفهوم انزاح إلى سلطة القبيلة والطائفة، ليشمل بعد ذلك كلا من المجتمع والدولة، حتى بتنا نصف مجتمعا بعينه، مثل المجتمع العربي، بالبطريركي الذي يخضع لحكم الأب، حسب تنظيرات الفلسطيني هشام شرابي. وتحمل التجربة السياسية التونسية المعاصرة جينات وخصائص بطريركية كثيرة، سواء في فترات حكم البايات الحسينيين، أو في تجارب الدولة الوطنية الحديثة، خصوصا مع حكمي الحبيب بورقيبة وبن علي، وفي فترتي حكم الباجي قائد السبسي. لم يكن بورقيبة يتصرّف كمجرد زعيمٍ بنى مجده السياسي من معاداته الكولونيالية الفرنسية، ثم التعاون معها، ومع من تولي شأن الدولة الوطنية الحديثة والتأسيس لها على شاكلة النموذج اليعقوبي الفرنسي، وإنما كان يتقمص دور الأب المؤسس لـ"الأمة التونسية" التي بعث فيها الحركة والحياة، بعد أن حوّل التونسيين إلى شعب مكتمل الوجود، إذ لم يكونوا سوى غبار أفراد على حدّ تعبيره واعتقاده، بقطع النظر عن صدقية القول من عدمها.
على هذه الأرضية، تأسس ونما الحكم العائلي في تونس، فقد كانت زوجة الرئيس وسيلة بن عمار تمسك بخيوط كثيرة من اللعبة والرهانات السياسية داخليا وخارجيا، وتقوم مقام الرئيس في التسمية والتولية والعزل والتنحية، قبل أن يطلّقها ويبعدها عن القصر، وهو في سنوات الخرف، لتحل محلها ابنة أخته، سعيدة ساسي، رمز الدسائس والمؤمرات السياسية. أما نجله الحبيب بورقيبة الابن، وعلى عكس ما يسوّق أن والده أبعده عن مركز القرار في الدولة، سماه والده، أي رئيس الحكومة، سفيرا لتونس في واشنطن وروما وباريس من سنة 1956 إلى 1961، وسماه والده أيضا، أي رئيس الدولة، وزيرا للخارجية من 1964 إلى 1970. وفي السنة نفسها، تولى وزارة العدل مدة لا تتجاوز العام. وفي 1977، سماه والده من جديد وزيرا مستشارا له، مقدمة لخلافته على رأس الدولة، ليعزله سنة 1986 تحت تأثير شيخوخته وانفلات أمور الحكم من إمرته.
حكم زين العابدين بن علي بالمقاربة العائلية نفسها، بأن أطلق العنان لأشقائه في البداية، ثم لأصهاره وزوجته، بأن استولوا على ثروة البلاد، وزرعوا الموالين لهم في مراكز القرار 
والمواقع الحكومية، وسنوا القوانين على مقاسهم، لحماية مصالحهم، ولاستمرارهم في هرم الدولة إلى ما لا نهاية، حتى باتت تونس برمتها حديقةً خلفيةً للعائلة التي أزيحت من مركز السلطة في انتفاضة شعبية وثورة عارمة عرفتهما البلاد في نهاية سنة 2010 ومطلع 2011، أدت إلى إنهاء العمل بدستور 1959، وحل المجالس التشريعية الصورية، وحظر حزب التجمع الدستوري (الحاكم) في حكم قضائي. وبدلا من ذلك، سُن دستور جديد للبلاد، وانبثقت حكومات عن الانتخابات التأسيسية والتشريعية سنتي 2011 و2014.
لم يختلف الأمر في تجربة حكم الباجي قائد السبسي رئيسا للحكومة سنة 2011، ورئيس الدولة بداية من سنة 2014، فالرجل سليل عائلة مخزنية قديمة، كانت دائما قريبة من مراكز القرار، ومن دوائر الحكم والنفوذ في ظل سلطة البايات وحكم بورقيبة وإبّان السنوات الأولى من حكم بن علي، فتولى جميع المناصب السامية التي عرفتها الدولة، من مساعد مدير إلى مدير ومدير عام إلى سفير ووزير ونائب في البرلمان ورئيس وزراء ورئيس جمهورية، وكان شاهدا على إدارة وسيلة بن عمار دواليب الدولة من وراء حجاب، بوصفه أحد رجالاتها المقرّبين. وهو في الآن نفسه صديق الحبيب بورقيبة الابن، صاحب النفوذ والحقائب الوزارية والدبلوماسية، كما كان مخضرما بين حكم الحزب الواحد الاستبدادي والنظام الديمقراطي.
وما كان لهذه الشخصية أن تنسى، أو تتناسى، أو تتجاهل، كل ذلك الإرث المخزني والعائلي الذي يمثل قاعدة عميقة مستبطنة في الثقافة السياسية، ومرتكزا لممارسة الحكم، ما أدى إلى عودة حكم العائلة بسرعة، بعد أن اعتقد التونسيون أنهم أسقطوا هذا النموذج الكريه، عشية تخلصهم من حكم بن علي وأصهاره. فقد استنجد السبسي، منذ البداية، بنجله ليتولى شأن حزب نداء تونس الذي بعثه إلى الوجود سنة 2012، وتمكّن بواسطته من العودة إلى هرم الدولة سنة 2014، ونصّب نجله مديرا تنفيذيا وممثلا قانونيا، مدخلا لتوريثه السلطة، الأمر الذي أدى إلى انهيار الحزب، وتشظيه، وانقسامه إلى مجموعة من الأحزاب والكتل البرلمانية، والفشل في المحافظة على موقعه الأغلبي في البرلمان، قبل أن ينهزم في الانتخابات المحلية في شهر مايو/ أيار المنصرم. لقد أصبح نجل السبسي، بعد سنة 2014، لاعبا رئيسيا في تسمية رؤساء الحكومات والوزراء وكتاب الدولة ومختلف المسؤولين الحكوميين والإداريين والدبلوماسيين، وخلعهم، على مرأى ومسمع من والده، وربما بإيعاز منه، وبالارتكاز على تحالفه مع حركة النهضة، وخصوصا مع رئيسها راشد الغنوشي. كما باتت أسماء زوجة الرئيس وزوجة نجله وأصهاره متداولةً في صالونات السياسة ومنتدياتها، وفي فضاءات الأحزاب، وحتى في المنابر الإعلامية، فيما يشبه الدور الذي لعبته زوجتا بورقيبة وبن علي.
ولم يكن خلع الحبيب الصيد من رئاسة الحكومة سنة 2016، ليحل محله يوسف الشاهد سوى نموذج صارخ على الحكم العائلي والأبوي الذي صاحب تجربة الباجي قائد السبسي على رأس الدولة، فقد أزيح الصيد، المتمرس في مؤسسات الدولة، والعارف بخفاياها، لرفضه تنفيذ أوامر إبن الرئيس وتعليماته وإملاءاته، وجيء بالشاهد الشخصية غير المعروفة، والتي لا تملك أي رصيد تاريخي في النضال السياسي والنقابي والمدني والحزبي قبل 14 يناير/ كانون الثاني 2011، وعديم الخبرة بالدولة ومؤسساتها وقوانينها وتشريعاتها وكيفية إدارتها، وهو الذي تربطه علاقات قرابة وانتماء مع عائلة الرئيس، وينحدر من الأصول نفسها المعروفة في البِلدية، لينفذ أوامر العائلة الحاكمة واختياراتها، ويستجيب للخدمات والرغبات الغنائمية التي تشتهيها وترسمها في سلم أولوياتها، من مناصب عليا وصفقات كبرى. والأهم من ذلك كله 
تأمين مستقبل العائلة، وعدم فتح ملفاتها، تحسبا لكل المخاطر التي تتلازم مع تبدلات السياسة وتغير القائمين على الحكم. لكن الشاب الأربعيني الذي أعاد اكتشاف نفسه، فعشقها حتى الموت، على طريقة نرسيس (أو نركيس) في الأسطورة اليونانية عندما اكتشف جماله أول مرة، وهو يرى وجهه في الماء، قرّر قتل الأب الذي بنى له مكانة وأمجادا سياسية، فجاء به كاتب دولة، ووزيرا ثم رئيس حكومة، والحلول محله مستقبلا بكل الوسائل السياسية والدستورية والاتصالية والمالية والعلائقية المتاحة والمشروعة وغير المشروعة، بهدف الوصول إلى قصر الرئاسة في قرطاج سنة 2019، فكانت مقدّماتها الدخول في معركة كسر عظم مع نجل الرئيس، والإستيلاء على حزبه، أو استخدام جزء منه في تأسيس حزب جديد، لتتحول إلى حربٍ معلنةٍ، صاحبتها تصريحات عدائية، لا تخلو من اتهاماتٍ في وسائل الإعلام مع الرئيس نفسه الذي طلب صراحةً من رئيس حكومته الاستقالة من منصبه، أو تجديد الثقة في مجلس نواب الشعب.
المفارقة فيما يحدث في تونس على مرأى من النخب الفكرية والقوى السياسية، بما في ذلك القادمة من رحم النضال التاريخي ضد الاستبداد والهيمنة، هو إعادة إنتاج منظومة حكم بطريركية أبوية قديمة هرمة، بواسطة الماكينة الديمقراطية وآلياتها وتشريعاتها ومؤسساتها التي افتخر بها التونسيون وتباهوا، ذلك أن الحكم العائلي مظهر استبدادي قديم، فكيف له أن يخترق نظام حكم يلتزم دستورا ديمقراطيا، ويعتمد مبدأ التداول السلمي للسلطة، عبر آلية الانتخابات دون غيرها، ويجعل المسار السياسي ومستقبل تونس الديمقراطي رهين معركة عائلية، خالية من إيطيقيا السياسة، ونواميسها المنظمة؟