تونس.. هذا التحالف في مواجهة الإضراب

تونس.. هذا التحالف في مواجهة الإضراب

28 نوفمبر 2018

مظاهرة في تونس العاصمة تطالب برفع الأجور (22/11/2018/الأناضول)

+ الخط -
لا تقتصر هذه المقالة على استرجاع محطات تاريخ العمل النقابي المهمة في تونس، وإرثه العميق، ونضالاته الراسخة منذ ما يناهز القرن، مع تأسيس جامعة عموم العملة التونسيين بقيادة الزعيم النقابي الوطني، محمد علي الحامي، سنة 1924، ما أدى إلى قمعه وسجنه، صحبة رفاقه، ثم نفيه خارج تونس ووفاته في حادث سير بين مكة وجدّة في الحجاز العربي تحوم حوله الشبهات، ومع ظهور نقابة بلقاسم القناوي، أو ما يعرف بنقابة الكرارطية، سنة 1937 قبل أن يهيمن عليها الحزب الحر الدستوري الجديد، وتنتهي إلى الوأد والاندثار، ثم نشأة الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946، بقيادة الزعيم الوطني الشهيد فرحات حشاد، والشيخ الزيتوني الفاضل بن عاشور، وهو أحد أبرز التشكيلات النقابية وأقواها في تونس والوطن العربي والعالم في الزمن الحاضر.
ترمي المقالة إلى التذكير بأن تلك السمات الدالة في التاريخ النقابي التونسي كان يندمج فيها النقابي بالوطني بالنضالي، بالسياسي الذي يصل إلى حدّ الانصهار في الدولة الوطنية الحديثة، وهي ميزة ميزت الديناميكية النقابية عشرات السنين، فلم تكن ذات صبغة مطلبية صرفة، وإنما كانت أبعادها وآفاقها السياسية ظاهرة للساسة والدارسين والمتابعين الدوليين، ناهيك عن المنخرطين في العمل النقابي، والمؤتمنين على استمراريته، على مدى حقبات مختلفة من تاريخ تونس المعاصر، فهم الذين عايشوا خوض الاتحاد معركة تحرير الجزائر، ولعب أمينه العام، أحمد التليلي، دورا مركزيا في إيصال التبرّعات المالية والأسلحة إلى المقاتلين الجزائريين، في نهاية خمسينيات القرن الماضي ومطلع الستينيات، وهم الذين جعلوا من الاتحاد مدافعا رئيسيا على القضية الفلسطينية منذ سنة 1948، واستخدموا كل الأشكال النضالية المتاحة لمصلحتها في معاركها الكبرى وفي الحروب العربية الصهيونية، وهم من استماتوا في الدفاع عن العراق، ووفروا التبرعات من الدم والمال، زمن العدوان عليه وحصاره سنة 1991 واحتلاله سنة 2003.
تؤكد العودة إلى المدونة التاريخية والسياسية للحركة الوطنية التونسية والمشروع الإصلاحي 
الوطني أن الاتحاد العام التونسي للشغل كان مكونا رئيسيا في تلك الحركة، ونضالاتها من أجل التحرّر واستقلال تونس، وهو الذي حسم الصراع لفائدة بورقيبة عند اندلاع الاحتراب بينه وبين الزعيم صالح بن يوسف الذي اغتالته في فرانكفورت في أغسطس/ آب 1961 جماعة الديوان السياسي البورقيبية، كما كان الاتحاد ممثلا في المجلس القومي التأسيسي الذي انتخب سنة 1956 بـ 19 نائبا، وله وزراء في حكومات بورقيبة المتعاقبة، وممثلون في المجالس التشريعية بين سنة 1959 و2009 في الفترتين، البورقيبية والبنعلية، وكان أمينه العام عضوا بالديوان السياسي للحزب الدستوري الحاكم (مؤسسة اتخاذ القرار في الدولة في زمن حكم الحزب الواحد) إلى سنة 1978، تاريخ فك الارتباط وإعلان استقلالية العمل النقابي. وشارك في هيئة تحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي كانت بمثابة المجلس التشريعي لحكومة الباجي قائد السبسي سنة 2011، وأمّن الحوار الوطني، صحبة عمادة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان سنة 2013، ما أدى إلى التوافق حول دستور سنة 2014، وتشكيل حكومة التكنوقراط، ما مكّنه من نيل جائزة نوبل للسلام.
ولم يكن الإضراب العام، على الرغم من خطورته الكبيرة على الحياة العامة والاقتصاد الوطني والسلم الاجتماعي، وعلى جهاز الدولة نفسه، غائبا أو مجرد سلاحٍ يستخدم في التهديد والوعيد لتحقيق المطالب النقابية والأهداف السياسية، فقد عرفت تونس ستة إضرابات عامة، اثنان منها في أثناء الفترة الاستعمارية، وهما إضراب 1947، المناهض للوجود الاستعماري الفرنسي، وسقط فيه 29 شهيدا و150 جريحا في صفاقس، والإضراب العام بمناسبة اغتيال زعيم الاتحاد العام التونسي للشغل، فرحات حشاد، في 1952، وإضراب واحد شهده العهد البورقيبي يوم 26 جانفي (يناير) 1978، عُرف في المعجم السياسي والنقابي التونسي بالخميس الأسود سقط فيه أكثر من مائة شهيد، وجُرح مئات، وعرف محاكمات القيادات النقابية التي زُجت في السجون. وسلسلة الإضرابات العامة الجهوية التي شهدها الأسبوع الأخير من عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، أهمها إضراب صفاقس يوم 12 يناير/ كانون الأول 2011 عجّلت جميعها بسقوط نظامه بعد يومين، وثلاثة إضرابات عامة عاشتها تونس بعد الثورة التونسية، اثنان بمناسبة اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي، والإضراب العام الثالث هو إضراب الوظيفة العمومية يوم 22 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي. والذي تميز بسلميته وعلو درجة تنظيمه وجماهيريته، إذ انخرط فيه جل الموظفين العموميين الذين يفوق عددهم ستمائة ألف موظف تونسي، ولم تتخلله اعتقالات، على غير إضرابات عامة مماثلة في العهود السابقة، ليشكل بصمة مهمة في سجل الحركات الاجتماعية التي ساهمت في ترسيخ المطالبة بالحقوق الاجتماعية، والدفع نحو العدالة الاجتماعية في مجتمعٍ يشهد سلعنة سريعة الخطى والوتيرة، شملت حتى قيم المجتمع ووسائل مناعته، مثل التعليم والصحة ومنظومته الدينية (الاتجار في الحج والعمرة)، وذلك لمصلحة موجة ليبرالية ورأسمالية عاتية، تزداد نهما ورغبة في الربح والغُنم ومراكمة رأس المال يوما بعد يوم، بصفة شرعية وقانونية، وبوسائل النهب والتحايل والسرقة والاستغلال المفرط والهيمنة على المال العام وموارد الدولة، ما جعلها تستحق لقب الرأسمالية المتوحشة.
الإضراب العام آخر ملاذ طبقة وسطى تونسية تتداعى يومياً من جراء الارتفاع الجنوني في 
الأسعار، ولا سيما أسعار المحروقات والكهرباء على مرأى ومسمع من أجهزة الدولة التي لا تخجل من إعلان عجزها على كبح هذا الجنون، بل سكوتها المبيّت بسبب اقتصاد السوق والتحرير الاقتصادي الذي ترسّخه سياسات الحكومة الاقتصادية والاجتماعية والمالية، رافضة، في الآن نفسه، الترفيع في أجور الموظفين، لإحداث توازن بات حيويا لتوفير الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة، بحجّة أن صندوق النقد الدولي، مقرض تونس الرئيسي، يرفض ذلك.
تمكّن الاتحاد العام التونسي للشغل في إضرابه أخيرا من أن يحدث توازنا ظل مفقودا، وأن يفك الحصار على الحركة النقابية والشغلية التونسية التي لا تواجه فقط حكومة يوسف الشاهد، التي استخدمت المناورة في التفاوض، عبر قبولها الزيادة في أجور المشتغلين في القطاعين العام والخاص، قبل المصادقة البرلمانية على التحوير (التعديل) الحكومي يوم 12 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، ورفضها تعديل أجور الموظفين العموميين، بعد تأمين أغلبية برلمانية لذلك التحوير، وإنما تواجه تحالفا ليبراليا إسلاميا - لائكيا، يستخدم آلة تشويه ودعاية مضادة فيسبوكية جهنمية، تشكل في السابق من أحزاب نداء تونس والنهضة وآفاق تونس والوطني الحر، ويتشكل اليوم من "النهضة" حزبا رئيسيا متحالفا مع شقٍّ من "نداء تونس" (كتلة الشاهد) وحزب مشروع تونس المنشقّ عن حزب نداء تونس.
وقد شكّل هذا التحالف ست حكومات منذ سنة 2014 ، لكنه أغرق البلاد في المديونية، ودمّر العملة الوطنية لمصلحة اليورو والدولار، متوخيا سياسة تحرير الدينار، وأحدث اختلالا غير مسبوق في الميزان التجاري، وانهار في عهده احتياطي العملة الصعبة، ليصل إلى أدناه، فلم يعد يستجيب للمعايير الدولية المطلوبة، ما ساعد على فقدان مواد أساسية وأدوية، وعلى توسع الفقر والجريمة. ولم تعرف البلاد، طوال هذه الفترة، برنامجا إصلاحيا حقيقيا، يمكن أن يحد من الأزمة المالية والاقتصادية - الاجتماعية المتفاقمة، ومن ظاهرة الهجرة غير النظامية التي بلغت أوجها في السنوات الأخيرة. ستكون للإضراب العام تداعيات مهمة على المشهد السياسي التونسي، وعلى الخريطة الحزبية والتحالف الحكومي الإسلامي - اللائكي الذي وضع نفسه بين النار والرمضاء، فإما أن يقبل صاغرا المطالب النقابية المشروعة، ويحيّد الاتحاد العام التونسي الشغل، ولو جزئيا، في مرحلة انتخابية بامتياز، أو أن يواجه إضرابا عاما جديدا أكثر خطورةً، يشارك فيه القطاع العام والوظيفة العمومية، قرّرته الهيئة الإدارية للاتحاد يوم 17 يناير/ كانون الثاني المقبل.