زمن السجال والفرقة في فرنسا توقف، من أجل الاستماع لخطاب واحد أوحد، ومُوحِّد وجامع، هو خطاب رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون، الموجه إلى الضابط الشاب الراحل، وعائلته، وإلى قوات الأمن، وإلى جميع الفرنسيين.
وأراد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منح تكريمٍ رسمي وشعبي (من خلال السماح للجمهور بحضور التكريم) غير مسبوق للضابط الدركي، الذي دفع حياتَه ثمناً لـ"قرار إيثاري، يتمثل في دفع حياته، دونما تردد"، كما قال ماكرون، حتى لا يموت فرنسيون آخرون، أي دفع ثمن مكافحة الإرهاب.
الحضور الرسمي تجلى بحضور كافة أطياف الطبقة السياسية وخدّام وموظفي الدولة، والشعبي، من حيث التكريم الذي حظي به هذا البطل الفرنسي، والذي عبرت عنه كثير من المدن والبلدات الفرنسية، من خلال إعلان عزمها على إطلاق اسمه على شوارع ومراكز ومؤسسات، وهو ما بادر إليه رئيس حزب "الموديم"، يمين وسط، فرانسوا بايرو، الذي أعلن عن إطلاق اسم الكولونيل بلترام، على شارع في بلدته، "بو".
الكل حاضرٌ في هذا التكريم في ساحة الشرف في ليزانفاليد Les Invalides، التي تحتوي على رفات الكثيرين من أبطال الحرب في فرنسا، أبرزهم الإمبراطور نابليون بونابرت.
وحضرت فرنسا السياسية والدينية بقوة: أعضاء الحكومة الحالية، وكل القيادات العسكرية والأمنية، إضافة إلى ثلاثة رؤساء جمهورية، من بينهم رئيسا جمهورية سابقان، هما فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزي، وكل رؤساء حكومة فرنسا الأحياء وعدد كبير من الوزراء السابقين: جان - بيير رافاران، ميشيل أليو - ماري، برنار كازنوف، آلان جوبيه، بيير جوكس، مانويل فالس. وحضر كذلك رؤساء وقياديو الأحزاب السياسية الفرنسية: لوران فوكييز، جان لوك ميلانشون، فرانسوا بايرو، وغيرهم، وكل التمثيليات الدينية، إضافة إلى 60 من عائلات ضحايا الإرهاب. كما حضر مئتا دركي من رفقة سلاح الراحل، لحمل نعشه، والتعبير عن المواساة والتضامن مع عائلة الفقيد.
وبعد الاستماع لعزف النشيد الوطني، توجّه ماكرون للقاء بعض العائلات من ضحايا "الإرهاب الإسلاموي"، خاصة والدة أرنو بلترام وزوجته، اللتين أثارتا إعجاب كل فرنسا بقوتهما وجَلَدهما، ومشاعرهما العميقة تجاه الراحل.
ولاحقاً، استعرض ماكرون في خطابه مجريات الاعتداء الإرهابي الذي شهد مقتل الضابط وثلاثة مواطنين فرنسيين على يد رضوان لقديم، مشدداً على "بطولة" بلترام "التي لم تتزعزع، فهو لم يتردد، كما قد يفعل آخرون". وامتدح دركيي منطقة "أود"، الذين كانوا تحت إمرة الراحل، "الذي أقسم على الالتحام بمُثُله". وعدّه الرئيس الفرنسي "من بين أبطال فرنسا ومقاوميها العظام، كجان مولان، بيير بروسوليت، جان دارك، وآخرين مجهولين".
وطمأن ماكرون الفرنسيين بأنهم سيخرجون من هذه المحنة رغم الحزن والشعور بالظلم، فالوميض الذي أشعله (الضابط الراحل) في دواخلنا لن ينطفئ، بل هو على العكس، انتشر.. وإن اسم أرنو بلترام سيصبح اسم البطولة الفرنسية".
وفي انتقاد مباشر لدوافع الإرهابيين ومحفزاتهم، أكد ماكرون متوجهاً إلى الشباب الفرنسي: "نعم، فرنسا تستحق أن نمنحَها أفضل ما نملك، نعم، الالتزام بتوفير الحماية يمكن أن يذهب حتى التضحية العليا، نعم، هذا يمنح معنى لحياتنا. أقول هذا لهؤلاء الشباب في فرنسا. المُطلَقُ موجود هنا، أمامنا، ولكن لا يوجد في التيه المتعصّب حيث يريد أتباعُ العدم أن يَجرُّوكُم إليه".
وتوجه الرئيس الفرنسي إلى والدة الضابط وأرملته، قائلاً إن "هذا الموت لم يكن عادلاً"، وإن "امتنان الأمّة والشرف الذي منحته لن يرد إليكم الكائن الذي تحبونه".
وفي خطابه، أصرّ ماكرون على إدانة ما سماه "الاعتداء الإسلاموي" و"الظلامية البربرية"، منتقداً أيضاً "الإسلاموية التحتية في كل الأماكن"، وطالباً من كل مواطن فرنسي "اليقظة والتزام الروح المدنية".
وشدد ماكرون على أن "فرنسا ستتجاوز هذه الوضعية دون ضعف"، بفضل "انسجام أُمّة موحَّدة"، في ردٍّ على كل من يريد منح هذا الحدث قراءات سياسوية وانتخابوية متعصبة ومتشددة، مثل تصريحات رئيس الحكومة السابق مانويل فالس وزعماء اليمين المتطرف والكلاسيكي، الذين بدأوا، بعيد الاعتداء الإرهابي، بالتنقيب عن هفوات وتقصير الحكومة.
وأضاف الرئيس الفرنسي: "بينما ضاع اسم الإرهابي في النسيان، فإن اسم أرنو بلترام أصبح اسم البطولة الفرنسية، هذه البطولة لها معنى وتمنح معنى لحياتنا"، واعداً بـ"ألا يذهب موت بلترام عبثاً".
وأعلن الرئيس الفرنسي ترقية أرنو بلترام إلى درجة كولونيل، مانحاً الضابط الفرنسي الراحل وسام الشرف من درجة قائد.
وشهدت ساحة الشرف في منطقة ليزانفاليد دقيقة صمت، ثم دوّى بعدها النشيد الوطني الفرنسي، مرة ثانية.
تجدر الإشارة إلى أن الموكب الجنائزي توقف في الساعة العاشرة صباحاً، ولمدة ربع ساعة، أمام مقبرة كبار رجالات فرنسا (بانتيون) Pantheon، ثم اجتاز الحي اللاتيني، من أجل الوصول إلى ساحة الشرف في ليزانفاليد.