بلير "الألعبان" وبورصة حقوق الإنسان

بلير "الألعبان" وبورصة حقوق الإنسان

15 يوليو 2016
+ الخط -
مرةً ثانية، نتوقف عند بورصة حقوق الإنسان، وقد تحدثنا عن مقام إنسان دول العالم الثالث في هذه البورصة، بكونه رخيص الثمن، وربما منعدم الوجود. ومن الأهمية بمكان أن نفتح هذا الملف مرة أخرى، وأن نتوقف عند مشاهد تواردت بعد "تقرير شيلكوت"، بصدد الحرب على العراق، التي سُميت، في ذلك الوقت، حرب تحرير العراق، أو عملية حرية العراق. هذه بعض من أسماء استعملت لوصف العمليات العسكرية التي كانت ساحتها العراق في سنة 2003، واستمرت من 19 مارس/ آذار إلى 1 /أيار/ مايو، والتي أدت، في النهاية، إلى احتلال الولايات المتحدة العراق عسكرياً، بمساعدة دول أخرى، مثل بريطانيا وأستراليا وبعض الدول المتحالفة، بينما أطلق المناهضون لهذه الحرب تسمية حرب بوش أو حرب احتلال العراق. تسببت هذه الحرب، كما أوردت تقارير مختلفة، بأكبر خسائر بشرية في المدنيين في تاريخ العراق. وبدا الهدف الذي أُعلن عنه في مهمة التحالف، وفقاً لما أدلى به بوش الابن ورئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، من مهمة التحالف في تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل، ووضع حدٍّ للدعم الذي يقدمه صدام حسين للإرهاب وتحرير الشعب العراقي.
وحينما صدر هذا التقرير الذي دان بلير، باعتباره قد ضلل الشعب البريطاني ومؤسساته النيابية، في النهاية اعتذر توني بلير، بعد هذا التقرير بكلماتٍ مقتضبةٍ كان مفادها بأنه يعتذر للشعب البريطاني في ضحاياه، لكنه لم يعتذر لضحايا الشعب العراقي، على الرغم من أن تلك الخسائر ربما تكون وصلت إلى مئات الآلاف. لم تكن تلك الضحايا تهم. ولم يكن بأي حال قتلى العراق جديرين بالإحصاء، لكن عدّاد حقوق الإنسان كان يعدّ كل من قتل من الغازي، وعبّر ذلك عن حالةِ نفاقٍ شديدةٍ، لا يمكن بأي حال إلا أن تُشير ليس فقط إلى ازدواج المعاير في حقوق الإنسان وانتقائيتها، بل إلى حالةٍ من العنصرية الفجّة في التعرّض لحقوق الإنسان. ولم تكن حقوق الإنسان في هذا المقام تعني إلا حقوق إنسانهم، والقتلى لم تكن تعني إلا قتلى الغرب أو التحالف، أما الذين يموتون بالليل والنهار ويعدّون بالآلاف من أهل العراق، فلا يستأهلون حتى الإحصاء والعدّ، وقد مثّل ذلك كله حالةً عنصريةً كامنة وكاملة، في اعتبارها حقوق "الإنسانية" بمعناها الشامل العادل.
وبعد مرور الأيام وبعد ثلاثة عشر عاماً، يأتي مجرم الحرب بلير ليقول كلمة اعتذار ويمضي، ولم تحرّك الحكومة العراقية ساكناً للحديث عن ضحايا العراق الذين سقطوا في هذه الحرب الانتقائية الظالمة، ولم تُكلّف جامعة الدول العربية نفسها أن تُطالب بحقوق هؤلاء الضحايا، بعد هذا التقرير الفاضح لعنصرية الغرب في تعامله مع أوطاننا وشعوبنا. وكذا فإن الأمم المتحدة ومؤسساتها ومجلس الأمن لم يحرّكوا ساكناً بعد هذا التقرير، والمحاكم الجنائية لم تتحرّك لتُدلي باتهامٍ مباشرٍ لكل من بوش الابن وبلير الكاذب، وبدت مؤامرة الصمت والتواطؤ تأتي من كل جانب. يفلت هؤلاء بفعلتهم ولا يوَاجهون بأي حساب أو عقاب بأي مسؤولية أو مساءلة، إذ تقوم هذه المنظومة على قاعدة من استباحة دماء كل من ينتمي إلى دول العالم الثالث، ومنطقة العرب على وجه الخصوص، لا يقيمون للإنسان فيها وزناً، ولا لأعداد القتلى شأناً، بينما هم فقط يجعلون من إنسانهم هو المحور، والمدار هو الإنسان، ولا إنسان غيره.
تحيز عنصري في تعريف الإنسان والإنسانية، وهو ما أفضى إلى انتقائيةٍ ظالمة في المعايير
والاستباحة والاستخفاف لغير إنسانهم، وربما تحكى، في هذا الشأن، قصة طريفة أن ممثلة الاتحاد الأوروبي أصيبت بانزعاج شديد، وطالبت، على وجه السرعة، بمقابلة عاجلة مع رئيس وزراء اليمن وقابلته في الرياض، ونقلت له مشاعر القلق والتوتر على حديقة الحيوان والحيوانات القاطنة فيها في محافظة تعز من جرّاء اشتباكاتٍ قد تطولها، واقترحت نقل الحيوانات الى جيبوتي، لكنها لم تكّلف خاطرها أن ترى المشهد كاملاً لإنسان العرب الذي يُقتل بدم بارد بالمئات، بل بالآلاف. تحرّك قلبها وقلقها من أجل الحيوان، لكنها تناست الإنسان. وبحق، نحن لا نريد أن يضار إنسانٌ أو حيوان، لكن حضارة تنتفض من أجل قطة أو كلب ولا تنتفض لقتل وإزهاق أرواح ونفوس تعدّ بالمئات، بل الآلاف، إنما تشكل في حقيقة الأمر حضارةً ذات نظرةٍ عوراء، تُعبّر عن خللٍ في تعريفها للإنسان والإنسانية والحقوق والواجبات، اختلالٍ يشير من كل طريق إلى حالةٍ عنصريةٍ، تسكن الإدراك الغربي، وتجعله يستهتر بأي إنسان غير إنسانه في بورصة حقوق الإنسان.
بل إن هؤلاء الذين يحكمون كل عناصر المعادلة المشوهة في النظام الدولي في ظل قاعدة السيد والعبد، فتجعل من معادلات الاستبداد الدولي حالة نفاق رخيصةِ للحضارة الغالبة، يعتبرون أنفسهم فوق المساءلة والحساب. الفرعونية الدولية هي التي تكرّس فراعين آخرين في معادلات الاستبداد في أوطاننا، وصار الاستبداد المحلي امتداداً للاستبداد الدولي. نقول لهؤلاء الذين يساعدون المستبدين، إذا خرجوا على نصهم، فقاتلوهم بشراسة. ولكن، لم يقتلوهم فقط، ولكن قتلوا شعوبنا معهم ودمّروا أوطاننا. تحت دعوة التحرير، أتوا ببدعة التعمير بعد التدمير، معادلة شديدة العنصرية، تدمير ثم مطالبة بالتعمير في موالد زائفة، تمثل "سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء". نقول لهؤلاء توقفوا عن تعليمنا دروساً عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. توقفوا عن ادعاء أُستاذية العالم، وحملكم رسالة التبشير بقيم الديمقراطية في العالمين. إنها في حقيقة الأمر فرعنة دولية تحتضن فراعين كثيرة في أوطاننا، يقتلون شعوبنا بالمباشرة أو بتوكيل هؤلاء بالقيام بالمهمة، يمارسون مؤامرة الصمت، وربما مؤامرة التواطؤ وقتل الشعوب. فهل سننتظر ثلاث عشرة سنة أخرى، حتى يعتذر هؤلاء عن قتل شعوبنا بالمباشرة أو بالتواطؤ أو بالصمت، فيعتذروا بعد مرور السنين، وتكون كلمات الاعتذار بعد قتل الملايين في سورية وفي اليمن وفي ليبيا وفي مصر وفلسطين، متى ستعتذرون؟.
إنها تجارة الموت. إنهم حفارو القبور، فرعون الدولي يساند فراعين الداخل، كفاكم تلاعباً بأوطاننا وقتلاً لشعوبنا.. أنتم عنصريون حتى النخاع، توقفوا عن تخريب أوطاننا وقتل شعوبنا، لا نحتاج إلى أعذاركم، أو اعتذاراتكم بعد مرور السنين، إلا أن نظام السيد والعبيد في منظومتنا الدولية هو الذي يحتضن نظام السيد والعبيد في منظوماتنا الداخلية. فرعون الأكبر يرعى فراعين صغارا. وبين هذا وذاك، تقتل الشعوب وتدّمر الأوطان، تارة بدعوى تحريرها، وتارة بدعوى مقاومة الإرهاب فيها، إن فرعون الأكبر وفراعينه الصغار هم الذين يبنون مصانع العنف والإرهاب، وثورات الشعوب قادمة، ترد على فراعنة الداخل والخارج، مهما أراد هؤلاء، ومهما استباحوا من دماء.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".