بدلة الإعدام هدية معتقلات مصر في يوم المرأة

بدلة الإعدام هدية معتقلات مصر في يوم المرأة

10 مارس 2015
+ الخط -

ارتدت امرأة كرداسية ريفية الملامح بدلة الإعدام، وأودعوها بقرار قضائي في حجرة "المخصوص" في سجن القناطر، غرفة معزولة أركانها مظلمة تحتجز فيها الجنائيات المحكوم عليهن بالإعدام، كنا نرى وجوههن تطل من الشباك الحديدي خلال ذهابنا، يومياً، إلى كافتريا السجن، يحسدننا بنظراتهن على زيّنا الأبيض، فهو يعني لهن الحياة، سامية شنان، الآن، قابعة هناك بمسبحتها الصفراء التي لا تفارق يديها، في انتظار قرار يؤيد تعليقها في مشنقة، أو حل رقبة.

ذات ليلة في شهر مايو/أيار 2014، كانت تجلس "الحاجة سامية" كما تنادينها فتيات الحجز أرضاً بجوار سريرها، ومن فوق السرائر نطل برؤوسنا لمتابعتها، وهي تقص لنا تفاصيل ملابسات اعتقالها، والذي شهدت خلاله قرية كرداسة مذبحة مدوية، عرفت إعلامياً "بمذبحة كرداسة".

لم يكن للسلمية مكان هنا، فالسلاح يقابله سلاح، كما تصف، عراك ناري بين أهالي مسلحين رفعوا الأسلحة في وجه "الداخلية" قارعين طبول حرب أهلية "مصغرة" بمهاجمة مركز شرطة كرداسة، فأشعلوا فيه النيران وقتلوا لوائين وعقيداً ونقيبين و7 آخرين من الأمناء.

في ليل هذا اليوم "التاسع عشر من سبتمبر/أيلول 2013" تم إغلاق جميع مداخل ومخارج مركز كرداسة، وكانت "امرأة الإعدام" تستطلع الأخبار من جيرانها عمّا يدور في الخارج، الخوف يعتريها من أن يصيب ابنيها، طارق وحسن، مكروه، فهم خرجوا منذ الصباح لأعمالهم ولم يأتوا حتى الآن.

المئات من رجال الشرطة والأمن يحيطون بمنازل أهل القرية بعربات الشرطة والأمن المركزي في حملات اعتقال عشوائية لإحكام قبضتهم الأمنية على القرية ومحاصرتها، فإذا بأصوات عالية تنادي في الخارج "افتحي يا ولية" فتحت لهم باب شقتها، فقام أحدهم بسؤالها: "فين ولادك يا ست إنتِ"، فأجابتهم بفزع "معرفش مطرحهم"، فأعطى الضابط أوامره باقتيادها إلى القسم واحتجازها كـ"رهينة" لإجبار أبنائها على تسليم أنفسهم.

سارع ولداها، الاثنان، إلى تسليم نفسيهما فور وصولهما المنزل ومعرفتهما بخبر اعتقال الأم، ظناً وأملاً في الإفراج الفوري عنها، ولكنهما فوجئا بإدراج أسماء الثلاثة في قضية رقم 12749 لسنة 2013 بتهم "سحل مأمور المركز، وحيازة أسلحة، والشروع في القتل". وكعادة القضاء، لا تعرف معايير له ببراءة معتقل وإدانة آخر، فتم الإفراج عن ابنها حسن، والحكم بالإعدام على الأم وابنها الكبير طارق.

"سامية شنن" لا تنكر مواقفها المعادية للنظام وتصدرها مسيرات أهل القرية المناهضة للانقلاب في تعبير سلمي رافض لانتهاكات الداخلية التي ترفع آلاتها القمعية في وجه كل من يقول "ارفض النظام"، فهي تعد من أقدم المعتقلات في سجن القناطر، وأول امرأه مصرية يصدر في حقها حكم الإعدام لأسباب سياسية.

أتذكر يوم دخلت علينا الزنزانة فور مجيئها من إحدى الجلسات قبل النطق بإحالة أوراقها إلى المفتي، وهي في حالة من الانهيار، تبكي من شدة الضرب الذي تعرضت له من رجال الأمن الموكلين بحراستها وركلهم لها بالأقدام، وهم يسبونها بأقذر الكلام وأحقره، والأكثر جرماً وهي تروي ما ذكرته محاضر التحقيق بالادعاء بأنها "قامت بالتمثيل بأحد الضباط والتبول على جثته"!

لم تكن المرة الأولى من نوعها التي ينكل فيها "بامرأة الإعدام"، فقد تعرضت لسلسلة من التعذيب بمعسكر الأمن المركزي بالكيلو 10.5، والتعليق في الحائط، للاعتراف بتهم ملفقة لها أمام ابنها للضغط عليه للاعتراف بتهم لم تقترفها.

كيف لهذه المرأة أن تقتل! أو كما يزعمون تمثل بجسد ميت، فوالله لقد رأيت منها في المعتقل ما يجعلني أرى فيها الأمومة المتعصبة، وهي تدق الثوم لتعالج به شعر "رشا منير" من التساقط، تجلس أمام الطوب الحراري بالساعات لتطهو لنا الطعام بلا ملل، تجذب ورقة وقلماً وتطلب على استحياء من "هبة نجم" أن تعلمها الكتابة والقراءة لتتمكن من قراءة المصحف، فهي لا تعرف منه غير "قل هو الله أحد"، لا يمر اليوم دون أن تنظر إلى النجوم وتتأملها، ثم يعلو صوتها في تجلٍ لتغني بطريقتها الريفية "هتفرج هتفرج بإذن الله، ونخرج وننعم بنور الحيـاة، يا قاعد لوحدك وشكلك حزين متضحك شوية ده ربك معين، مش هي دي النهاية، لأ هي دي البداية" فكنت أردد في نفسي "أوف بقى.. ده أنا كرهت الأغنية دي من كتر مبسمعها"، كانت تتحمل عصبية الكبيرة منا والصغيرة، عتابها بالعين، تفرح بأقل اهتمام، شغوفة الذكر والصمت.

مر علينا يوم 21 مارس/أذار 2014 "يوم الأم"، وأنا ألزم سريري، بعد أن قررت أمي مقاطعة الاحتفال بهذا اليوم، إلا وأنا بحضن بيتي، ففضلت أن أقضي يومي في مشاهدة ومتابعة تلك الوجوه المفعمة بالأمومة، وهي تنتفض من سريرها، حينما تأتي السجانة وتنادي على أسماءهن بصوت عال "نادية.. جاتلك زيارة، رشا منير.. زيارة، سامية شنن زيارة"، وبعد ربع ساعة دخلت سامية، وهي تضحك كطفلة ومعها وردة وبيدها الأخرى حقيبة هدايا، وترفع حاجيبها بطريقة أنثى تتفاخر بمحبة أبنائها: "ابني حسن جابلي هدية عيد الأم"، وتشم الورد بتودد وهي تقول "يابنات حد يقرء الكارت ده.. عاوزه أعرف إيه اللي مكتوب فيه".

بلا خجل جاء اليوم العالمي للمرأة عامنا هذا، في ظل مراسم تشييع النظام العسكري لنساء مصر ووأدهن أحياء بأكفان لونها الأحمر، معطياً للسيسي وحكومته إشارة ضوئية غير مسموعة بمواصلة الاضطهاد الأمني بالتعذيب والإخفاء القسري وسحل مئات الفتيات في الميادين أمام أعين العالم المعصوبة بإرداته.

لا تعويل على منظمات حقوقية فقدت نخوتها وآدميتها، فلا تهتم إلا بالكلاب والقطط، ولا تعويل على دول لا ترى العزة الإ في "بطونها"، فالإعداد العقلي والثوري هو المنفذ الحقيقي للتعجيل بإسقاط جبابرة الأرض وفراعينها.

في المعتقل جميعنا نحيا بأمل الخروج.. في انتظار أحكام عادلة تبرئنا، لم تصغ مخيلتنا، يوماً، أن تتحقق عقوبة الإعدام فينا، حقاً.. أحمد الله أني لم أكن معهن في يوم الثاني من ديسمبر/كانون الأول 2014، يوم أعدمت فيه كل معتقلات الرأي نفسياً، وسامية شنن تلملم أغراضها من العنبر وتتجهز للبدلة الحمراء.

المساهمون