النداء الأخير... سمّ قاتلٌ في الصندوق

النداء الأخير... سمّ قاتلٌ في الصندوق

21 مايو 2014

FrankRamspott

+ الخط -
النداء، هذه المرة، ليس من حكمدار بوليس العاصمة، (يوسف بك وهبي)، إلى المواطن أحمد إبراهيم، القاطن في دير النحاس (عماد حمدي)، في فيلم (حياة أو موت) للمخرج المبدع كمال الشيخ في عام 1954، يحذره فيه من تناول دواء، كان قد أرسل ابنته الطفلة لإحضاره من الصيدلية، فاكتشف الصيدلاني، بعد انصراف الطفلة، أنه أعطاها قارورة فيها سم قاتل، بدلاً من الدواء، لنصبح أمام قضية حياة أو موت. وهي العقدة الدرامية، حيث الصراع هنا مع الزمن، للوصول إلى المواطن المعرض للهلاك المؤكد، قبل أن تصل إلى يده القارورة التي تحوي السم القاتل، فيتناوله من دون إدراك لحقيقته فيلقى حتفه. كان في وسع الصيدلاني الطيب (حسين رياض) أن يتغاضى عن الأمر كله، ولكن، لحسن حظ المواطن أحمد إبراهيم، القاطن في دير النحاس، الحي الشعبي البسيط، أنه كان في زمن غير زماننا هذا، زمن كان فيه الضمير الإنساني حاضراً، والأهم كان مفهوم الدولة، ووظيفة مؤسساتها المختلفة واضحاً، ولا لبس فيه، حيث نجد الصيدلاني قد توجه، مباشرة، إلى الدولة، ممثلة في شخص حكمدار بوليس العاصمة الذي استقبله، واستمع إليه باهتمام واحترام، من دون أن يزجره، أو يصرفه خائباً على أقل تقدير.
علينا أن نتصور فقط ماذا يمكن أن يكون عليه الموقف، لو حدث ذلك اليوم، وحاول مواطن مصري، أياً كانت مشكلته، مقابلة الباشا مدير أمن القاهرة، أو حتى الباشا الأصغر، مأمور أي قسم شرطة للاستنجاد به؟ تحركت عناصر البوليس على الفور، بحثاً عن المواطن، أحمد إبراهيم، لتحذيره، وواجهتها مشكلة أن العنوان الذي لديها كان قديماً للمواطن، وتغير إلى آخر غير معلوم. ولم يجد حكمدار بوليس العاصمة أمامه سوى الاستعانة بالإعلام، والذي كان متاحاً من وسائله في ذلك الزمن الإذاعة المسموعة، والتي بادرت، بوعي وتقدير رفيع للمسؤولية، إلى قطع برامجها العادية لإذاعة نداء الحكمدار.
مرة أخرى، علينا أن نتصور ماذا كان سيكون موقف الآلة الإعلامية الهائلة، المتاحة حالياً، لو حدث ذلك في أيامنا هذه!؟ ما علينا من ذلك كله، ونعود إلى أصل الحكاية، حياة أو موت المواطن التي تتوقف على تعاطيه الدواء الذي ستحضره ابنته الصغيرة من الصيدلاني، والذي فيه سم قاتل، أو اكتشافه للأمر في الوقت المناسب، وكان لضمير الصيدلاني اليقظ، وتحمل حكمدار بوليس العاصمة مسؤوليته وقيامه بواجبه، ووعي الإعلام برسالته تجاه المجتمع، الفضل في إنقاذ حياة المواطن، ولعل الرسالة ذات المغزى التي أنهى بها كمال الشيخ فيلمه المثير هي مشهد النهاية، عندما توجهت الطفلة إلى حكمدار بوليس العاصمة، قائلة ببراءة .. شكراً يا شاويش.. ليبتسم الحكمدار، وينصرف وأفراده راضياً بأنهم أدوا ما عليهم من واجب. ما علاقة ذلك كله، بما نحن فيه الآن، والذي يجعلنا نسترجع مشاهد فيلم، تم إخراجه قبل 60 عاماً؟

الحقيقة أن المواطن المصري على مشارف عملية انتخابات رئاسية فاسدة، لتقنين ما حدث في 3 يوليو/تموز 2013، عندما تم عزل الرئيس المنتخب قسراً، والاستيلاء على السلطة بالقوة المسلحة، ومحاولات تثبيت تلك السلطة في عمليات قمع متتالية، اتسمت بالعنف المفرط، سقط ضحية لها آلاف، وأريقت دماء المصريين في الميادين والطرقات بأيدي المصريين ورصاصهم، ربما لأول مرة في تاريخهم الحديث. ثم تقترب الخطوة الأهم، وهي شرعنة الانقلاب وغسله، على طريقة غسل الأموال، عبر صندوق الانتخابات، ليصبح قائد الانقلاب رئيساً منتخباً! في عملية تجري، وكأنها انتخابات تنافسية، تم التخطيط لها وتصميمها بدقة وسيناريو تفصيلي، أهم عناصره أن تتوجه الجموع في حشود حاشدة إلى الصندوق، وتملأ اللجان، والأهم الحشد الإعلامي لتصوير ذلك كله، ونشره على أوسع نطاق، ثم ينتهى الأمر بإعلان تنصيب الرئيس المرشح!
وهكذا يكون قد تم غسل الانقلاب وشرعنته، لتدخل مصر طوراً جديداً من أطوار القهر والتغييب، تحت نظام حكم شمولي، لم تتحدد معالمه بعد، فهو ليس مثل نظام حكم حسني مبارك ورجال أعماله، ولا هو مثل نظام حكم أنور السادات وانفتاحه، وقطعاً، ليس كنظام يوليو وحكم جمال عبد الناصر، لكنه نظام حكم المجلس العسكري، حيث ينتهى عصر مؤسسة الرئاسة، ذات اليد العليا على كل مؤسسات الدولة الرئيسية، أو ما تعرف في بلادنا بالمؤسسات السيادية .. جيش وشرطة واستخبارات وإعلام وخارجية، وتتحول إلى جزء من السلطة الحاكمة، حيث اليد العليا تكون للجيش أو المؤسسة العسكرية.
بالطبع، لا يمكن الادعاء بأن الذهاب إلى الصندوق، أو عدم الذهاب إليه، سيغير شيئاً من النتيجة المعروفة مسبقاً للكافة، داخلياً وخارجياً، ولكن الذهاب بكثافة حقيقيةٍ، سيتيح الفرصة لاستكمال سيناريو الشرعنة وغسل الانقلاب، على أقل تقدير في مواجهة العالم الخارجي. هنا، تكون الفرصة قد سنحت لسلطة الانقلاب لدسّ سمّ الديكتاتورية العسكرية في عسل الديموقراطية المدنية، أما عدم ذهاب جماهير الشعب الحاشدة إلى الصناديق فسيجعلها قاصرة على چوقة 3 يوليو، ولا أقول كل 30 يونيو، التي اكتشف كثيرون ممن شاركوا فيها الخديعة التي تعرضوا لها بالانقلاب، "تلك الجوقة الراقصة الطروب بموسيقاتها وأناشيدها"، وفي هذا كشف لما بقي مستور، ووفاء لأرواح شهداء سقطوا من أجل حرية وكرامة وحياة المواطن الذي عليه أن يستمع إلى النداء الأخير. هذه المرة، ليس من حكمدار بوليس العاصمة، فقد اختلفت الأحوال، ولم تعد تعنيه حياة المواطن المصري، ولا عبر إعلام وطنه، فلم يعد للوطن ما يمكن أن نسميه إعلاماً!، ولكن النداء من أرواح الشهداء: لا تذهبْ، الصندوق فيه سمّ قاتل. والمشهد الأخير لن يكون جملة من طفلة بريئة إلى الحكمدار، تقول فيها شكراً يا شاويش.. لأن المشهد، هذه المرة، لن يكون فيه أي شاويش.
 

 
2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.