الجهاد الثقافي والالتزام الأخلاقي

الجهاد الثقافي والالتزام الأخلاقي

04 ابريل 2014
+ الخط -

انتشرت في المجتمع العماني مقاطع من مجموعة قصصية، لإحدى الكاتبات، فيها دلالات جنسية وإيحاءات جنسية مباشرة كثيرة، وصار موضوع تلك المقاطع الشغل الشاغل للناس، في مجالسهم الواقعية وحوارتهم الافتراضية، واختلف المتحاورون بين مدافع عن الكاتبة أو مبرر لكتاباتها، وبين مهاجم لها وطاعن في اجتهادها.
ارتكز الذين دافعوا عن الكاتبة على مبدأ حرية التعبير، وأَن ما قامت به حق للأديب في اختيار ما يراه مناسباً من صيغ إبداعية، كما أن ما كتبته ليس افتراءً على المجتمع، بل يعكس أَمراضاً اجتماعية، لا يخلو منها أي مجتمع، مهما كان محافظاً. أما الطرف الآخر، فاعتبر تلك الكتابات ليست خادشة للحياء فحسب، بل وفيها تجاوز كبير لقيم المجتمع وأَعرافه، وذهب فريق منهم إلى أنها تروج قيم الابتذال والرذيلة، إِلى أن بلغ الأمر ببعضهم إلى اتهام الكاتبة في عرضها، بل وفي دينها، ونسبتها إلى الإلحاد.
مر التاريخ البشري عموماً، والإسلامي خصوصاً، بحوادث كثيرة يتجاوز فيها أحد الكتاب، أو الشعراء، قيم المجتمع القبلية، أو الدينية، وحتى الجنسية، والتاريخ العربي حافل بطرائف كثيرة عن مشاكسات ابن الراوندي الدينية، ونكت بشار بن برد الشعرية، وخمريات أبي نواس، ولعل أبرز الحوادث القريبة كانت رواية "آيات شيطانية"، للهندي سلمان رشدي، والذي وصف فيها القرآن الكريم وحياً من الشيطان، واستطاع رشدي، بفضل تلك الضجة المفتعلة، لا حول مهارته الإبداعية، بل حول تعديه على القرآن والنبي، استطاع أن يحصل على إقامة دائمة في بريطانيا،  وحماية شخصية، وعقود كتابية لم يكن ليحصل عليها، لو اعتمد على مهاراته الإبداعية فحسب.
وفي الخليج العربي، استطاعت الكاتبة السعودية، رجاء الصانع، إثارة حفيظة المجتمع السعودي والخليجي، في روايتها الجريئة "بنات الرياض"، والتي حققت رواجاً تعدى الحدود العربية إلى العالمية، حيث تمت ترجمتها إلى عدة لغات عالمية، وهناك نماذج كثيرة غيرها كتب لها الانتشار، وأخرى لم يلتفت إليها أحد.
لا يوجد شخص، إلا ويرى نفسه الأفضل، أو الأجدر بالصواب والحقيقة، من الآخر. وتنتقل هذه الرؤية أفقيا من الفرد إلى المجتمع، ليرى ذاته الأفضل، فتصبح هذه الرؤية كالفقاعة التي تشل ملكات العقل، فيعجز عن نقدها وتفكيكها، فيصبح كل فرد متوهماً أن مجتمعه فاضل ومحافظ وحام للقيم. ويعطي هذا الوهم الفرد شعوراً بطمأنينة وأمان إلى أن المجتمع، بأجمعه، سينتفض دفاعاً عنها، إذا ما شعر بأن هناك من يحاول تجريده إياها. ولذلك، نرى مثل ردات الأفعال العنيفة هذه بين أحيان وأخرى، في أماكن متفرقة من العالم، فهذه الظاهرة العالمية تزداد وتخبو في المجتمعات، بفعل التواصل الاجتماعي والتدين ومستوى التعليم.
لن تتوقف مثل هذه النماذج المستفزة للشعور المجتمعي عن الظهور، لكن ما يحدد انتشارها، وردّات الفعل تجاهها، وعي المجتمع بطبيعتها، وطريقة التفاعل معها، فالكتابات التي تتعمد استفزاز قيم المجتمع، رغبة في الظهور والبروز، خصوصاً من شخصيات مغمورة، ليس لها تاريخ في الكتابة والإبداع، يبنغي عدم الالتفات إليها، لأنه ليس أقتل للفكرة من إهمالها. أما كتابات الشخصيات البارزة، والأسماء المتحققة، فينبغي أن يفحصها وينقدها المشتغلون بالكتابة والإبداع. وأَما الكتابات المحرضة على الفساد، فينبغي التعامل معها في إطار طرقٍ قانونيةٍ عادلة تحفظ حق الكاتب والمجتمع.
أخيراً، أقول إن تعرية أمراض المجتمع جهاد ثقافي وواجب أخلاقي، لا يقل، في ضرورته والحاجة إليه، عن محاربة الاستبداد وتعرية الفساد، بيد أَن لكل جهاد قيمه النبيلة، وأخلاقه المقدسة. وهذا الجهاد الأدبي يجب أَن يكون وفق إطار القيم الإنسانية، فالغاية النبيلة لا تبرر الوسيلة الرذيلة، وفي اللغة والصور التعبيرية فسحة كبيرة عن صدم المجتمع بألفاظٍ، تستفز المجتمع، وتثير هواجسه بشأن الكُتاب والمثقفين الذين كانوا، وما يزالون، تحت فوهة مدافع النقد والتشويه، من السلطة السياسية والدينية والقبلية

B5DE41FA-C582-458B-8381-0DB8027FFEB8
زكريا بن خليفة المحرمي

طبيب وباحث في الفكر العربي من سلطنة عمان، من مؤلفاته "إستئناف التاريخ... المثقف والثورة والنظام السياسي المنتظر" و"الصراع الأبدي" و"جدلية الرواية والدراية".