العلمانية أم الديمقراطية العقلانية؟

العلمانية أم الديمقراطية العقلانية؟

10 يونيو 2014

Oivind Hovland

+ الخط -
"وفي رأيي أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر القومي العربي، وتعويضه بشعاريّ الديمقراطية والعقلانية". محمد عابد الجابري.
يطرح مثقفون عرب العلمانية مخلصاً من الاستبدادين، السياسي والديني، يرون أن الخلاص من الاستبداد السياسي وحده سيتبعه وصول حركات الإسلام السياسي إلى السلطة، وهم يتطيرون من فكرها الذي يقوم على مصادرة حريات التعبير والإيمان، والتضييق على الأقليات الدينية، كما حصل في مشاهد سحل داعية شيعي وقتله، أيام حكم "الإخوان المسلمين" في مصر، ويستدل هؤلاء، أيضاً، بأوضاع الأقليات المسلمة في الدول العلمانية الغربية التي هي أفضل بكثير من أوضاع العرب في بلدانهم.

بيد أن الدعوة العلمانية على إغرائها لا تخلو من سطحية وانفصام وتجاوز لشواهد كثيرة معارضة، فهناك دول علمانية عريقة، مثل الصين وروسيا وكازاخستان وأوزبكستان، تعاني فيها الشعوب من الاستبداد السياسي، وتعاني فيها الأقليات من التضييق والحصار، ما يؤكد أن العلمانية من دون ديمقراطية لا قيمة لها، وأن الحل لا يكمن في العلماينة، أساساً، بل في الديقراطية التي قد لا تخلو هي، أيضاً، من أمراض التعصب والتطرف ضد الأقليات، فألمانيا الديمقراطية هي من أحرقت مواطنيها اليهود، وفرنسا وبلجيكا الديمقراطيتان هما من يجرّمان لبس الحجاب على المرأة المسلمة.
ومن جهة أخرى، فإن في الدعوة إلى فصل المجال الديني عن السياسي، في المجتمعات المسلمة، تأسيا بالمجتمعات الغربية المسيحية، إغفال كبير للفروقات الجوهرية بين فكرة الدولة في التراثين، الإسلامي والمسيحي، فنشوء الدولة في التراث الإسلامي لم يكن منفصلاً عن ظهور الإسلام ذاته. أما في التراث المسيحي، فقد ظلت الكنيسة منفصلة أربعة قرون ككيان مستقل مكتمل الأركان، بعيداً عن الدولة. وبالتالي، نستطيع القول إن الارتباط بين الدين والسياسة في الإسلام وجودي، أدى إلى قوة الدولة وتمددها، كما أدى إلى انتشار الإسلام وتثبيت أركانه، بينما لا يمثل الارتباط في التراث المسيحي بين الدين والدولة سوى حدث عرضي، أدى إلى انتشار المسيحية من جهة، لكنه أدى إلى تراجع الدولة الرومانية وانهيارها في الجانب الآخر. إضافة إلى أن طبيعة الدين الإسلامي تختلف عن المسيحية التي تشجع على العزلة والانقطاع، فالإسلام يقوم على الاجتماع المعبر عنه في النص الديني بـ "الأخوة" و"الولاية"، والاجتماع هو العنصر الأهم من العناصر الثلاثة، إضافة إلى الأرض والدستور لتكوين الدولة. الإسلام كذلك دين شريعة، يتعدى الشعائر الفردية، كما في المسيحية، إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، بل وحتى الحربية. يضاف إلى ذلك كله أن القضية الأولى التي انقسم حولها المسلمون لم تكن دينية، بل كانت قضية سياسية بامتياز، وهي قضية الإمامة وسياسة الأمة، لذلك، يمثل الجدل السياسي أساس الهويات المذهبية القائمة، اليوم، في العالم الإسلامي.
هذا الامتزاج العضوي بين الدين والدولة في التاريخ الإسلامي جعل من الدين المحدد الأكبر لثقافة المجتمعات المسلمة، والإسلام هو الهوية الأكثر حضوراً لدى الفرد المسلم. لذلك، أي حديث عن فصل المجال الديني عن المجال السياسي في العالم الإسلامي لن يكون حظه أفضل من حظ العلمانية التركية التي تترنح تحت أقدام الأتراك الذين تصالحوا مع تراثهم الإسلامي، مثبتين أن أي مشروع نهضة يفترض فصل الدين عن الدولة في العالم الإسلامي ليس له من أفق سوى الفشل.
ما تحتاجه المجتمعات العربية هو الديمقراطية المتصالحة مع ذاتها، ومع تراثها وهويتها، أما الخشية من وصول الإسلاميين، وفرضهم تطبيقات متعسفة للشريعة، فلا يمكن مواجهته باستبعاد الدين عن الشأن العام، لأن هذا التوجه فاشل تنظيراً وتطبيقاً، إنما تتم مواجهته بالتنوير والعقلانية التي تنطلق من روح الشريعة، لتؤسس قيم التسامح والتعددية، وتعتمد القراءة الحضارية والأخلاقية للنص الديني الذي يدعو إلى العدل والإحسان، ويحرم الظلم والاستبداد.
 
 

دلالات

B5DE41FA-C582-458B-8381-0DB8027FFEB8
زكريا بن خليفة المحرمي

طبيب وباحث في الفكر العربي من سلطنة عمان، من مؤلفاته "إستئناف التاريخ... المثقف والثورة والنظام السياسي المنتظر" و"الصراع الأبدي" و"جدلية الرواية والدراية".