الثقافة والتنمية.. المثال الصيني

الثقافة والتنمية.. المثال الصيني

26 سبتمبر 2017
+ الخط -
زرتُ الصين أكثر من عشر مرات. يلفتني دائماً أنها بلاد ذات حكومة قوية وغنية وعاملة، لشعب يمضي نحو التطور ومزيد من التقدم، ولم يبلغه بعد.
في تلك البلاد، ذات التخطيط الحكومي والمبادرات الحكومية، توظّف الحكومة الثقافة من أجل تنمية المجتمع، أي ليصير سلوكه أكثر مدنية وتحضراً، بما ينسجم مع متطلبات المستقبل المنشود. وقد سمعتُ مرّة من مدير المسرح الوطني الصيني، أنه يفهم دور المسرح باعتباره أداة لتثقيف الناس، وتطوير قيمهم السلوكية، معتبراً أن المجتمعات الأوروبية تطورت بفضل المسرح؛ لكنه المسرح الذي يعرف كيف يصل إلى الناس، ويؤثر فعلياً في سلوكهم. لفتني في ذلك الحديث يومها إرجاعه كثيراً من الفضل إلى أوبرا بكين في تثقيف المجتمع الصيني وتعليمه، قبل عشرات السنين، حين كانت الصين دولة فقيرة ما تزال، ولم يكن ممكناً لصينيين كثيرين حتى الذهاب إلى المدرسة، فكان على الأوبرا أن تعلمهم بدلاً من المدارس.
منذ ذلك الحديث، أتيح لي أن أحضر عدة عروض لأوبرا بكين، بعضها في مسارح فخمة وبعضها الآخر في مسارح شعبية، وهي أعمال مسرحية تجمع التمثيل والغناء والشعر والرقص التقليدي؛ وتحكي عادة قصصاً من الحياة اليومية، وقعت أحداثها قبل مئات السنين. أوبرا بكين عمرها أكثر من مائة عام، تؤديها شخصيات محددة في أشكالها وأزيائها ومكياجها، لكنها تروي، في كل مرة، قصة مختلفة، وقد باتت ذات مكانة عالمية مرموقة في الفن المسرحي التقليدي، كونها تنطوي على رموز مسرحية محدّدة، لكل منها معنى ثابت، تتعلق بالديكور والأزياء وحركات الممثلين، بحيث لا يمكن للمشاهد أن يفهم العرض المسرحي ما لم يتمكن من "ثقافة أوبرا بكين"، فيفهم مثلاً رمزية عدد الممثلين الموجودين في المشهد، ورمزية المكان الذي يوجد فيه الكرسي أو الطاولة، وما إلى ذلك من رموز مسرحية ثابتة.
وقد تميّزت أوبرا بكين ببساطة الديكور المستخدم فيها؛ إذ عادة ما يتكون من طاولة واحدة وكرسيين، وبعض الإضافات التجميلية في الخلفية، فيما يجري التركيز بدلاً من تفاصيل الديكور، على تفاصيل ملابس الممثلين والمكياج الذي يستخدمونه، فيكون مبالغاً فيه وكثير الألوان. بالطبع، تعود بساطة الديكور إلى نشوء هذا الفن في ظروف من الفقر والندرة، أما اليوم، وقد حافظت هذه الأوبرا على مبدأ بساطة الديكور، فإنها استعاضت عنها بتفاصيل السينوغرافيا، مستخدمة فيها كل جديد في عالم التكنولوجيا. إنها الصين الجديدة والغنية: شكل تقليدي، ومضمون طافح بالجديد!
ما هو أكثر مدعاة للدهشة، أن اللغة التي تستخدمها هذه الأوبرا هي لغة صينية قديمة (ربما فصيحة) لم تعد دارجة في الاستخدام حالياً، ويفهمها كبار السن فيما لا يفهمها معظم الشباب، لكن هذا لا يمنع من أن يدخل العرض المسرحي مختلف الفئات العمرية، حيث تحظى أوبرا بكين بشعبية بالغة في الصين، فيمتلئ المسرح تماما عند الإعلان عن عرض جديد، على الرغم من أن التذاكر تباع بأسعار مرتفعة نسبياً.
وعلى الرغم من أن الصين الغنية والجديدة، ذات العمق الثقافي، زاوجت بين نموها الاقتصادي الكبير، والاهتمام بالثقافة، يعتبر الصينيون أنهم قصروا في الموضوع الثقافي خلال العقود الأخيرة، فلم يكن تطوره موازياً للإنجازات الكبيرة في المجال الاقتصادي. هكذا يجري حالياً تطوير الاستراتيجيات والخطط الثقافية في الصين، جنباً إلى جنب مع تجديد البنى التحتية للثقافة، وتطوير المنتجات الثقافية نفسها، ما يعني أن الصين تقدّم مثالاً جديداً في توظيف الثقافة لصالح التنمية.
نحن في العالم العربي في حاجة ماسة للاستفادة مما فعله الغرب والشرق في توظيف الثقافة من أجل تنمية الإنسان ومفاهيمه وسلوكه. ليس مفيداً أن لا تكون الثقافة في خدمة تنمية الإنسان، إذا كانت المجتمعات تتطلع نحو التقدم والتحضّر. "الثقافة من أجل التنمية"، هذا ما يفهمه العالم ويفعله، ما دام ثمة تطلع نحو التنمية. و"الثقافة من أجل الثقافة" بعد أن تنتقل المجتمعات من التخلف إلى التحضّر، لا قبل ذلك. والثقافة قبل السياسة في كل الحالات!
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.