التحدّي الصعب... السينما والتاريخ في فيلمين

التحدّي الصعب... السينما والتاريخ في فيلمين

07 مارس 2020
لم يقف عند الحالة الاجتماعية للبولنديين (فيسبوك)
+ الخط -
يتناول المخرج البولندي داريوس غاييفسكي (1964)، في جديده Legiony، تضحيات آلاف الشباب البولنديين لإعادة الحرية إلى الوطن ولاستقلاله، ولإدانة التاريخ والأنظمة والاستعمار. فالفيلم (2019) يروي قصّة الشاب جايْزِك، الهارب/ المتشرّد من بلدة "ليدا"، الذي يُلقي جيش بلده القبض عليه، فيجد نفسه في صفوف فيلقٍ، برفقة شبابٍ متطوّعين لخدمة الوطن، ومستعدّين للمشاركة في المعركة، وردع المحتلّ الروسي.

يجلس "جايْزِك" وهو يُقشّر البطاطا في الثكنة، لكن مقتل امرأة مدنيّة برصاص جندي روسي متمركز في برجٍ في وسط المدينة، يكشف تفوّقه في استخدام السلاح، إذْ يُطلق الرصاص عليه، ما يجعل العريف يُدخله في فيلق الجيش، ويصبح جندياً رسمياً سيكون له دور كبير في الانتصار على الروس في المعركة الأخيرة في منطقة روكيتنا. لكنّه يتعرّض للأسر مع العريف "كاسوبسكي" في إحدى انتفاضات الكابتن "زلوتنيكي"، العريف البولندي الخائن، الذي أصبح منتمياً إلى الجهاز العسكري الروسي. يقول الخائن لـ"كاسوبسكي" وجنوده الشباب، بعد فشله في إقناعهم بارتداء الزيّ الروسي: "أنتم مجموعة أطفال ضد الإمبراطوريات الثلاث؟ لا يوجد أحد في صفكم. أنا ضابط في أقوى جيش سيغزو الأرض من المحيط الهادئ إلى المحيط الأطلسي. الغرب يتهاوى، وروسيا ستستمر إلى الأبد".

يبدو الفيلم قصصاً فردية لبعض شخصياته، قبل التنبّه إلى أنّها طريقة سرد لتقديم الشخصيات والسياق التاريخي ـ الاجتماعي، والإشكالية الفكرية المتّصلة بالاستعمار والتحرّر من النظام الروسي. لكنّ داريوس غاييفسكي لم يقف عند الحالة الاجتماعية للبولنديين في ظلّ الغزو والاستعمار الروسيين، وما ترتب عنهما من تهجير وتنكيل وويلات، في الحرب العالمية الأولى، قبل أنْ تصبح بولندا مستقلة وحرة، بعد أكثر من 100 عام من الاستعباد. لو أنّه تناول هذا الموضوع، لأعطى لفيلمه بعداً أقوى وأعمق. فالتعامل بالتضخيم بدا واضحاً منذ الاستعداد للمعركة، عبر الموسيقى ووضعيات التصوير. كذلك إنّ طريقة استعادة مفهوم الحدث التاريخي سينمائياً يتقاطع بشكل كبير مع "الساموراي الأخير" (2003) للأميركي إدوارد زفايك، الذي تناول سيرة الضابط الأميركي "نايثن ألغرين" (توم كروز) زمن الإمبراطور ميجي، المكلّف تدريب الجيش الياباني الرسمي التابع للدولة، للقضاء على مقاتلي الساموراي بزعامة "كوتسوموتو" (كين واتانابي). لكنه يؤسر، ويُمضي شتاءً كاملاً في بيت الزعيم، بين الجبال الخضراء والحياة اليومية التدريبية الصارمة لمقاتلي الساموراي، وأحاديثه مع الزعيم، فيكتشف الأخطاء التي ارتكبها بلده بحقّ الهنود الحمر، وقتل النساء والأطفال.
حضور التاريخ في "الساموراي الأخير" يُدين الحاضر ولا يبنيه، ويُسلّط الضوء على المسكوت عنه في التاريخ الأميركي. فشخصية ألغرين تدين العلاقات الدبلوماسية الدولية إزاء ما ارتُكب بحقّ الهنود الحمر، وإحساسه بالخطأ ومرارة العيش وعدم الرضى عن الحاضر، تجاه ما مارسه من قتل وتعذيب، فظلّ مخموراً وحزيناً لشعوره بالذنب. المخرج يتعمّد اللجوء إلى التاريخ لإضفاء شرعية أكبر على خطابه السينمائي وإدانة الحاضر، المعروف بـ"العهد الميجي"، وهذه مرحلة مؤسِّسة في تاريخ اليابان، لكونها علامة فارقة بحكم التحوّلات السياسية والاقتصادية، التي نقلت البلد إلى مرحلة التحديث. 
أما التاريخ في "الجيش" (Legiony)، فيضمر في طيّاته رغبة دفينة في محو الماضي، كأنّ المخرج باسترجاعه تاريخاً بولندياً جريحاً زمن الحرب العالمية الأولى، يمحو جانباً منه تدريجاً، أو على الأقل يُصحّح ما ورد فيه من رؤية استعمارية توسعية، وركام حقائق مغيّبة في التاريخ السياسي، العسكري لعلاقة روسيا ببولندا. في الحقيقة، هذا ليس محواً، بل كتابة جديدة لهذا التاريخ، تستند إلى الصُورة والصوت، وتتضمّن إشارات ورسائل سياسية تمجيدية، عن فيلق من الشباب، حرّر بولندا من النظام البلشفي. 
عملية كتابة تاريخ وطني في منجز سينمائي تبدو صعبة، لوجود اختلاف بين طبيعة الكتابة السردية التاريخية، وأنماط السرد الأخرى الموجودة في السينما.

المساهمون